ومنهم من اعتقدوا غير ما تعتقده الجماعة واستنارت أذهانهم بنور الحقائق فثارت نفوسهم ضد العرف وضد التقاليد وعرفوا ضرورة التجدد في الحياة لكنهم جبنوا فلم يجرؤوا على مجابهة الناس بما يخالف وتقاليدهم وعقائدهم وأعوزتهم حرية الرأي في جماعة قديمة جامدة فانبروا يحتالون على الأبحاث التي يعالجونها احتيالاً ويخدعون القراء بظاهر ما يبتغونه خداعاً يحتاج لكثير من المهارة والجهد ويدسون أفكارهم الجديدة دساً من حيث لا يجد فيها أخصامهم من المتعصبين سبيلاً لإثارة غضب الجماعة ونقمتها عليهم.
ومنهم من عرفوا الحقائق واعتقدوها ولكن نفوسهم كانت أصغر من أن تذيعها وتؤيدها وضمائرهم أضعف من أن تدعوهم للمفاداة من أجلها فأذاعوا على الناس غير ما اعتقدوه ودعوهم لما تأكدوا من فساده متخذين من أدبهم وعلمهم وقوة أقلامهم طريقاً يصلون منه لما يدفع عنه عادية المتربة أو يسد جشعهم وأطماعهم.
أما أولئك الذين اعتقدوا بما لا يتفق مع عقيدة سواد الجماعة وعرفها وتقاليدها واستطلعوا أن يجابهوا القوم بما اعتقدوا صحته مجابهة دون خداع أو احتيال أو تردد وتقلب فأنك لا تكاد تجد منهم من تهتدي إليه في هذا العصر لتذكره على سبيل المثال في سورية وسائر أقطار الشرق العربي. وحرية الرأي لا تكون صحيحة إلا متى أتيح لهؤلاء الآخرين أن يذيعوا آرائهم ويبثوا أفكاره دون أن يكون لهم من نقمة الجماعة وغضبها عليهم ما يخشون معه على نفوسهم وأرواحهم. إذاً فحرية الرأي التي تؤيدها حقوقنا ونظمنا ليس في الواقع ما يدل على وجودها وإذاً فمشيئة الفرد ما برحت خاضعة بكل مناحيها لهوى الجماعات وهوى سوادها وعامتها وفي جملة ما نشأ عن ذلك أن أدبنا أصبح لا يمثل نفوسنا بشيء ولا يتفق مع تفكيرنا فقد حظرت الجماعة عندنا على العقل والشعور والعواطف أن تظهر كما هي وقضى العرف والمحافظة والتحرج على الأدباء والمفكرين والكتاب أن يكتموا الناس ما في نفوسهم وأن يذيعوا عليهم غير ما يجب أن يعلنوه فكانت أكثر آدابنا وكتاباتنا وتأليفنا حتى قصائدنا وأشعارنا ومظاهر فنوننا مشوهة بالكذب والرياء والخديعة والدس والممالأة والجبن والتردد وغير ذالك من مظاهر ضعف الأفراد ووجلهم أمام قوة الجماعات وبطشها.
وهذه كلها صور لما كانت عليه حرية الرأي وجرأة التفكير في الغرب حوالي القرون الوسطى وأواخرها.