الذي أفرغه معلموهم في صدورهم وهم على مقاعد الدرس، ثم عاشوا لا يعرفون شعراً غير هذا الشعر ولا يتذوقون سواه! ومن الصعب جداً إن تغير ذوق المدارس التي تبقى في مؤخرة الحركات الأدبية، لأن المعلمين درسوا القدماء ولا يجدون من الرأي إن يقذفوا بكتبهم القديمة إلى النار ويأخذوا في دراسة الأساليب الحديثة. ولذلك قال (ره مي دوغورمون): إن المدارس مصانع شهرة، تغمر الأسواق ببضائع قديمة دائماً!
طوبى إذاً للشاعر الذي دخل أسمه في مناهج المدارس، مهما يكن سخيفاً، لأن ألف ناقد لن يستطيعوا إن يخرجوه منها بعد أن درسه المعلمون وفهموا وألفت فيه الكتب المدرسية! ولكنك قد تقول: إن السر في تقهقر. . وإن تيس من الحكمة في شيء إن يتخالف الشعراء ويتفرقوا شيعاً وأحزاباً. فيدال منهم للناثرين. ما في كلامك هذا شك. بل وأنني أعرف حادثاً نادراً يؤيده:
كان (أوغوست دورشان) مؤلففن العروضشاعراً عتيقاً ولكنه قليل الحظ من السهرة وكان يكره الرمزيين والمجددين ويفضل عزيف الجن على سماع قطعة من الشعر الجديد. خرج ذات صباح يهيم على وجهه، في شوارع باريس، ينزه عن نفسه، فمرت به سيارة مستعجلة فخلفته على الأرض صريعاً فاقداً كل حس وتجمع الناس حوله فعرفوه، ثم تبينوا السائق الذي دهسه بسيارته فإذا هو القصصي الفرنسي المشهور (جان تارو)! فما ملك أحد المتجمهرين نفسه عن أن يصبح: حكمة أليمة: القصة قتلت الشعر!. . وفي الواقع، إن المطابع تخرج لنا كل يوم عدداً لا يحصى من الروايات، وكثير من الروايات يعاد طبعها أكثر من خمس مئة مرة في خلال أعوام قلائل. . بيننا كتب الشعر يغلفها الغبار بغلاف يحفظها من لمس الأيدي! ولكن الشعر الذي ضاع هو الشعر المنظوم، وأما الشعر، بالمعنى الواسع، فلم يضع ولكنه ذاب في قالب جديد هو الرواية! على أن هذا التقهقر الذي مني به الشعر لم يكن من شأنه أن يضعف قوة الرمزيين، لأنهم لا يكتبون للشهرة ولكن للذة أنفسهم وللخلود الذي يطمعون به لما يتفهم الناس جمال شعرهم العميق.
طائفة من مزايا المدرسة الرمزية
ليس أحفل من الرمزيين بالموسيقى، وقيمة الحروف الغنائية، حتى أنّ بعضهم إذا أراد أن يصف وثبة أسد على حيوان وديع ليفترسه، جاء البيت الأول من قصيدته فخماً ضخم