للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

احتياجها إلى الجند. خلاصة القول: الحرب تعنى القمح كما تعنى البارود. وأزيد على ذلك بأن القمح يعني الثبات والتقهقر والغلبة أو الانكسار.

بنظرة واحدة إلى مختلف الطرق المتبعة في زراعة القمح وحصده وطحنه وخبزه نستطيع أن نحكم بإصابة على استعداد أي أمة وعلى درجة تقدمها في الصناعة والحضارة. ليست الثياب وحدها هي التي تفرق بين القروي والمدني ولكن رغيفه وكيفية قضمه الرغيف أيضاً. إن أول آلة ننشؤها في القرية هي الرحى، وأول معمل نبنيه في المدينة هو الطاحون. إن البلدة تفكر بقمحها قبل كل شيء. تطلب كسرة الخبز قبل الطعام. نعود أولادنا على احترام الخبز. ونصيحتنا إلى شبابنا هي أكسب خبزك. الخبز والقمح مختلطان بكل دين ولهما محل في كل عقيدة وإيمان. فهما أعظم قضية وأهم مسألة اجتماعية تقلب الدنيا رأساً على عقب. يسعى العالم بأسره وراء الحنطة والخبز. فكأن البواخر التي تمخر عباب الماء وتلاطم الأمواج، وكأن القطارات التي تخرق الجبال وتقفز من فوق الهاويات كلها وسائط مسخرة لنقل الحبوب. وكأن الأسلاك والسكك والمراكب التي تربط أطراف القارات ببعضها أنشئت من أجل أسواق القمح وتجارته. أظن أن عدد الناس الذين تشغلهم في الأرض زراعة القمح وحصاده وخبيزه يكادان يساوي عدد سكان الأرض جمعاء. لا يوجد في الأرض عمل أو صناعة تبدل في سبيلها هذه الهمة ويمارسها هذا العدد من الناس. لا يوجد عامل أو زارع أو صانع يحترم قدر الفلاح. حتى زوج الفدان الذي يجر المحراث محترم في نظرنا أكثر من سائر الحيوانات.

القمح يعز الأرض التي يبذر فيها، ويدر البركة على اليد التي تلامسه ويبهج التراب الذي ينبت فيه، ويجعل لعام إقباله شأناً وصيتاً.

قد تنتظم الدنيا بدون ذهب ولا فحم ولا كتاب ولكن لا دنيا بدون قمح. إن في امتداد السهول الخضراء التي تصافح زروعها الآفاق معنى من معاني السلام وإن السنبلة المحمرة الملأى زينة وزخرف وأثر على جانب من الدقة والظرف. وهي كما تدل على البحبوحة والبركة لتدل أيضاً على الثروة والقوة والأمن.

يستطيع الناظر إلى السنبلة أن يتخيل عالماً وسيعاً. إذا تأملنا حياة القمحة انجلت أمام أعيننا صور حقيقية شتى نألفها في هذه الحياة: في أواخر أيام الخريف الصاحية، بعد هطول

<<  <  ج: ص:  >  >>