الشيخوخة لم تنل من هذا الرجل منذ سنة ١٩١٩ حينما رأيته وأنا ضائع بين الجمع الباريزي الحاشد يمر قاصداً مؤتمر الصلح حيث جاء موفداً لتمثيل بلاده. وهاأنذا أراه للمرة الثانية ولكن في بلاد اليونان. لقد وقف في إحدى الشرفات فحي الجماهير المتزاحمة المتراصة وخطب فيهم خطاباً استمر ساعتين من الزمن ولقد أظهر في خطابه الضرورة المبرمة للدفاع عن النظام الجمهوري والوقوف في وجه أخصامه وأعدائه مذكراً للناس بالحوادث الدامية التي أوشك هو نفسه أن يكون ضحيتها ثم انبرى كرجل خاض المعارك واختبر أسرارها وعرف روح الجماعات ونزعاتها الشعبية فأظهر للجمع الغفير شاردة الحزن التي أحاط بها ذراعه أحياء لذكرى رفاقه ممن ماتوا في سبيل الحرية. ولقد بلغ التأثر من نفس الجمهور مبلغاً عظيماً. فمهما قال أشياع تسالدرايس في هذا المساء وفي الغد فستكون محاولتهم عبثاً وأتعابهم سدى. لقد تمت الانتخابات منذ الآن ولقد تم النصر في هذه المرة أيضاً للسياسة الجمهورية في جزائر الإغريق على السياسة الوطنية الضيقة التي يقوم بها الوجهاء المعاكسون في اليونان كما كان شأنهم في ماضيهم القديم.
قضيت المساء على شاطئ البحر مع رهط من الشباب اليونانيين ممن يشتغلون في الصناعة والتجارة وممن درسوا في البعثة العلمانية فأجادوا التكلم باللغة الفرنسية وهم أشياع تسالداريس والمنضمين لحزبه لما يخشونه من محاذير النظام الجمهوري وتبعثر سلطة الحكم فيه. ولقد بينت لهم ما اعتقده من ظفر الحزب الجمهوري في الغد لكنهم لم يريدوا أن يشاركوني الاعتقاد بذلك.
لقد كنا نتحدث على شاطئ الخليج في وادي الفردار وعلى الشاطئ الثاني حيث تتراكم قطع الليل كان القمر العظيم يعلو متثاقلاً في صعوده مصبوغاً بلون الدم الأحمر.
١ - تموز: على حدود بلاد الصرب
عزمت أن لا أتأخر أكثر مما تأخرت في سلانيك وأنه من العبث أن انتظر نتائج الانتخابات فأنا أعرفها سلفاً رغم ما يرتأيه أصدقائي اليونانيون بشأنها.
وددت السفر إلى مدينة صوفيا ولكن أخبار المساء في الأمس جاءت تنبئنا أن المدينة قد حوصرت عقب مؤامرة قام بها الشيوعيون من المكدونيين ولذلك فقد وليت وجهي شطر بلغراد وأوشك القطار أن يبلغ بنا الحدود الصربية دون أن أرى سوى ربوع سهل الفاردار