على أن ابن سينا لا يرى السعادة في ابتاع كل لذة بل يراها في الكمال والخير يدل على ذلك انقسام اللذات عنده إلى عاليه وخسيسة. فالجاهل الذي لا يدرك اللذات العالية ولا يشعر بها أشبه بالأصم الذي لا يدرك الألحان اللذيذة والأكمه الذي لا يشعر بالألوان الجميلة. وكيف تقاس هذه اللذة العالية بتلك اللذة الحسية الخسيسة. نعم إننا في عالم المادة المظلم يمنعنا حجاب الحس من إدراك المثل الأعلى ولكنا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب من أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذة السامية، فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً خفيفاً:(نجاة - ٤٨٢). فاللذات المعنوية إذن أفضل من اللذات المادية. وكثيراً ما يفضل الإنسان الألم الفادح على اللذة السائحة. فإذا علم أن اللذة ستسوقه إلى افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق أعرض عنها. ولذلك كانت الغايات العقلية السامية أكرم على النفس من الشهوات الخسيسة التي يحتقرها العاقل ويستخف بها الحكيم. أما النفوس الخسيسة فإنها لا تدرك إلا القريب ولا تبتهج إلا بالمحسوس ولا تتطلع إلى ما في الأمور العالية لأن اللذات الخالدة قال ابن سينا: إذا كنت في البدن وشواغله وعلائقه ولم تشتق إلى كمالك المناسب أو لم تتألم بحصول ضده فاعلم أن ذلك منك لا منه (إشارات ٩٤) يريد بذلك أن فقدان الاشتياق إلى الكمال وعدم التألم من الجهل راجع إلينا لا إلى المعقولات. لأن إشغال النفس بالشهوات واتصالها بالمادة يمنعانها من الالتفات إلى الملأ إلا على. قال: إن النفوس السليمة التي هي على الفطرة، إذا سمعت ذكراً روحانياً غشيها غاش شائق لا يعرف سببه وأصابها وجد مبرح ولذة مفرحة يفضي ذلك إلى حيرة ودهش. فالنفوس قادرة إذن بما فيها من الاستعداد والشوق أن تصل إلى شيء من السعادة في هذه الدنيا وذلك بالتأمل والتفكير في المبادئ الروحانية إلى الخلود.
٣ - مراتب النفوس البشرية
قسم ابن سينا النفوس إلى مراتب وقال أنها على اختلاف أنواعها قادرة على إدراك اللذة الحقيقية قبل الموت.
إن أجل سعيد وأحسن مبتهج بذاته هو المبدع الأول ويتلوه في مراتب السعادة الجواهر العلوية التي تبتهج بذواتها وتتأمل خالقها. فكما كانت الجواهر قريبة من المبدع الأول كانت