ليت جمال المرأة بقي منية هؤلاء الشعراء، وما جاوزا به إلى العبث والمجون حتى أفسده على الأذواق والأخلاق بغزل المذكر، ثم مادت الأشعار بالجمال الفاتن والملاحة الخالبة حتى كان العصر الثالث وأيام المتوكل وشعر البحتري المترع بالرفه والنعمة والبهجة يقول أبو عبادة:
رحن والليل قد أقام رواقا ... فنثرن الصباح فيه عمودا
بمهاة مثل المهاة أبت أن تصل ... الوصل أو تصد الصدودا
ذات حسن لو استزادت من ... الشمس إليها لما أصابت مزيدا
فحذا هذا الشاعر العبقري حذو الشعراء السابقين في التشبيه البدوي. وإذا غبر بنا الزمن إلى أواسط القرن الرابع ألفينا المتنبي ماليء الدنيا وشاغل الناس قد بسط جناحي شعره على عصره وما فاته أن ينشدها أبياتاً خالدة في جمال المرأة وهو لا يريده إلا بدوياً بحتاً خلواً من التصنع والتكلف:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... صوغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وحق للمتنبي أن يصبو إلى هذا الجمال الخالص لأنه لبث في البادية زمناً وطبع على محبة الأعاريب. وأما المعري فلا أفوز عنده بأوصاف لجمال المرأة، فإن هذا الأعمى الجبار الذي نقم على النساء وأقام عليهن الحدود ورماهن بالشتائم، لا يرى لهن من صفات الحسن والصباحة شيئاً ولو أنه كان بصيراً لهفت نفسه إليهن وألهب روحه جمالهن وأصباه ولكان له غير رأيه في الوجود.
لقد قيل هذا الشعر الذي تقدم على عدوة من الأرض، أما العدوة الثانية فهي ربوع الأندلس الزهراء حيث ازدهرت معالم الجمال وأينعت مراتع الفنون التي حمل قيثارتها ابن زيدون، وهناك هام بالولادة بنت المستكفى وتجلى لعينه روعة جمالها فوصفه وصفاً ملك على الإسماع والقلوب، وقد أثرت فيه مغاني الأندلس الوارفة وظلها الظليل ونسيمها العليل فقال في ذلك الجمال الساحر:
ربيب ملك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقدر إنشاء الورى طيناً