للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإنسان أبكم! لا يستطيع النطق، ولا يعرف أن يجيب، ولو أنه تكلم لانتهى ألمه، وانتهى هذا العالم. ولكنه بقي إلى الآن أبكم، أبكم بعناد وغباوة،

ولهذا السبب تستمر حياته الحاضرة وآلامه الأبدية.

أنتم لا تفقهون أقوالي، وأنا شاعر بذلك. إني أشعر بالشك يجول في نفوسكم واتبين رغبة الابتسام تلوح على شفاهكم. ولكن سيفعم اليقين قلوبكم وستعجزون عن الابتسام عندما تفهمون ما أريد أن أقول.

أعرف أن الكثيرين من بينكم يرون العالم عظيم الشبه بهم فيجدونه مملاً، كله عادات محزنة، متشابهة متكررة، وإني لأتبين من بينكم شاباً شاحب اللون يرتدي السواد. ولاشك أنه يقرأ اللورد بيرون فهو يميل للانتحار ويردد دائماً هذه الشكوى: دائماً الشمس ذاتها، دائماً النور ذاته، دائماً هي هي المياه الجارية، ووجوه القمر المتتابعة، والعصافير المغردة، والنساء العاشقات، والزهور المتفتحة الذابلة، ورنين أجراس الفجر والمساء، والبواخر التي تغادر الشاطئ لتعود إليه، وتعاقب الأيام والليالي، وكل هذا بدون نهاية، من ساعة الخلجان الأولى إلى ساعة النزع الأخيرة. وحتى الذي يجوب الأرض باحثاً عن شيء جديد، وشعور جديد ينتهي دائماً بالفشل، فالاستمرار يبعث الاستياء والضجر والحياة كلها وبجميع ما فيها من تعاقب الفصول والمواسم وتوالي الأعوام والعصور والرياح والعواصف تلخص هذه المراحلة المستمرة المتوالية وهي ولادة فألم فحب فتأمل فموت.

هكذا يتكلم الناس بعد أن تنقض مدة طفولتهم فلا يدعوا أنفسهم يسكرون بألعاب الحياة الخطرة. وهؤلاء أيضاً لم يدركوا مصيبتهم الكبرى. يظنون أنهم تجرعوا كأس المرارة حتى الثمالة، بينما هم ما كادوا يقتربون من الحافة حتى ابتعدوا مسرعين، وفي نفوسهم رغبة واحدة هي إبادة نفوسهم، وإزالة الحياة والعالم معها.

ولكن أنى لهم أن يهتدوا إلى طريق العدم ماداموا لم يدركوا بعد معنى الحياة وأسباب تواليها وتعاقبها على نمط واحد.

الحياة جامدة، الحياة ذات نمط واحد وشكل واحد كل هذا حقيقة واقعة ولكن ما سبب ذلك إلا الناس أنفسهم البكم الذين لا يستطيعون الكلام وليس بوسعهم أن يجيبوا على ما يسألون عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>