وجوه الجالسين فيحيي كل واحد منهم على حدة. ومشى الخادم ببطء يحضر للضيف الوافد القهوة البدوية ثم النارجيلة يفعم رأسها بالتنباك العجمي الفاخر، وحميد باشا صاحب البيت ولوع بانتخاب أنواعه يجلبها خصيصاً في كل سنة من طهران فلا بخل بها على سماره ممن اعتادوا أن يقضوا سهرات الشتاء عنده في قاعة المنزل البراني وهم كثر مواظبون. ولعل صّبارة البرد وتهطال الغيث في هذه الليلة حالا دون مجيء بعضهم، فكان عددهم لا يربو على خمسة كلهم من حي القنوات الذي نشأ فنه الوجيه صاحب البيت وأجداده من قبل. وأخذ القوم يتحدثون بما في شأنه أن يطرب مضيفهم. وجرى بهم حديث المطر الذي جاء به القادم الجديد إلى الحديث عن الزرع وموسمه وعن الكلأ والخصب في البادية وفي الضواحي وعن الخراف ومراعيها ولحومها. وهنا انبرى الشيخ سعيد بطرف القوم بنكاته ويتبسط في وصف المآكل الشامية فيقارن بينها وبين المآكل العراقية والمصرية ويذكر ما للحوم الخراف التي ترد إلى الشام من ديار بكر من لذة فائقة يعرفها جاره أبو صالح الذي يختارها دائماً لأنواع المحشيات ثم يروي في شيء من التمثيل المسرحي أن أبا صالح رأى عند مطلع الشمس وهو واقف أمام داره قطيعاً من هذا الغنم يسير به راعيه إلى أحد تجار اللحوم، وفي مؤخرة القطيع خروف سمين استرعت أليته الغضة انتباه أبي صالح وهيجت كوامن شهيته فتبع القطيع إلى الطرف الآخر من المدينة وما زال يسأل ويتتبع حتى عرف التاجر الذي تسلم القطيع واللحام الذي اشترى الخروف العزيز وعرف موعد ذبحه فتواعد فتواعد واللحام أن يأتيه في ذلك اليوم وبرّ بوعده فاشترى من لحمه وأعطاه أهل بيته فطبخن له فخذاً وكوسى محشياً دعا إليها جاره الشيخ سعيداً فأكلا ما شاء الله أن يأكلا ولم يذوقا من بعد لحماً ألذ ولا محشياً أفخر.
ويضحك القوم معجبين بالقصة ويجاريهم مضيفهم حميد باشا وفي ضحكته شيء من التكلف، فقد كان كمن يصغي للشيء وهو يفكر بسواه على غير ما اعتادوه منه ويستمرون في سمرهم وأحاديثهم وهو يتكلف الجري معهم والإصغاء إليهم، وكثيراً ما يبلغه ما يجول في ذهنه من شؤون هي أطرب على نفسه مما يسمع فيطرق مفكراً ثم لا يلبث أن يستعيد ما فاته من كلام محدثيه فيضحك له ويتظاهر بالاهتمام به. ومضى الهزيع الأول من الليل فاستأذن الأضياف منصرفين أبكر مما اعتادوا وغادروا حميد باشا قاعة البيت البراني إلى