العرب يعرفون أكثر ما يقول وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم واستمر عصره - صلى الله عليه وسلم - إلى حين وفاته على هذا السنن المستقيم وعليه سلك الصحابة في عصرهم وكان اللسان العربي عندهم صحيحاً محروساً من الدخيل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم من الروم والفرس والحبش والقبط وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتحت بلادهم للمسلمين ورفرف عليها علم الموحدين فاختلطت الفرق وامتزجت الألسن وتداخلت اللغات ونشأ بينهم الأولاد فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب والمحاورة منه وتركوا ما عداه لغنيتهم عنه واستمر الأمر على هذا النهج إلى أن انقرض عصر الصحابة القرن الأول وجاء التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم وإن كانوا في الإتقان دونهم ولم ينقض زمانهم سنة ١٥٠هـ إلا واللسان العربي قد استحال أعجمياً أو كاد فلا ترى المستقل به والمحافظ عليه إلا الآحاد فجهل الناس من هذا اللهم ما كان يلزمهم معرفته وأخروا منه ما كان يجب عليهم تقدمته فلما أعضل الداء وعزّ الدواء ألهم الله جماعة من أولي المعارف والنهى أن يصرفوا إلى هذا الشأن طرفاً من عنايتهم فشرعوا للناس موارده وقعدوا لهم قواعده فقيل إن أول مَن جمع في هذا الفن شيئاً أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى سنة ٢١٠هـ فجمع من ألفاظ غريب الحديث والآثار كتيباً صغيراً ولم تكن قلته لجهله بغيره من غريب الحديث وإنما كان ذلك لأمرين أحدهما أن كل مبتدع لأمر لم يسبق إليه بأن يكون قليلاً ثم يكثر والثاني إذ الناس يومئذ كان فيهم بقية وعندهم معرفة فلم يكن الجهل قد عمّ ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل المازني المتوفى سنة ٢٠٣هـ كتاباً أكبر من كتاب أبي عبيدة بسط فيه القول على صغر حجمه ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى سنة ٢١٤ هـ وكان في عصر أبي عبيدة كتاباً أحسن فيه الصنع وأجاد وكذلك محمَّد بن المستنير المعروف بقطرب المتوفى سنة ٢٠٦ هـ وغيره من أئمة اللغة والفقه جمعوا أحاديث وتكلموا على لغتها ومعناها واستمر الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة ٢٢٣ هـ فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار وإنه لكتاب حافل بالحديث والآثار والمعاني اللطيفة والفوائد الجمة وبقي كتابه معتمد الناس إلى عصر أبي عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦ هـ وهو كتاب مثل كتاب أبي عبيد أو أكثر منه ثم أكثر الناس من التصانيف في هذا الفن كالمبرد المتوفى سنة ٢٨٥ هـ وثعلب المتوفى سنة ٢٩١ هـ ومحمد بن قاسم الأنباري وسلمة بن عاصم النحوي وعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة ٢٣٨ هـ وغيرهم من أئمة اللغة والنحو والفقه والحديث واستمر الحال إلى عهد الإِمام محمَّد بن أحمد الخطابي البستي فألّف كتابه المشهور في غريب الحديث سلك فيه