وزبدة القول على مقتضى ما حققه بعض المتأخرين أن قرطاجنة مدينة عظيمة على البحر المتوسط أسسها الفينيقيون سكان سواحل سورية وكان لها في التاريخ القديم شأن عظيم ومنها ظهر القائد الشهير هنبال الذي غزا الرومانيين في عقر ديارهم وما زالت قرطاجنة التي كانت ضرة رومة شجى في حلق الرومانيين حتى وإلى عليها الرومانيون الغزوات وأخربها القائد سيبون سنة ١٤٩ أهـ قبل المسيح والظاهر أن الخراب لم يأتِ عليها كلها بل حفظت شيئاً من رونقها القديم إلى العصر الإِسلامي وتكرر عصيان أهلها وامتناعهم في حصونها العظيمة ولما اشتدت الفتنة الكبرى في إفريقية على عهد عبد الملك بن مروان أرسل حسان بن النعمان الغساني لاستخضاع أهلها فقصد البربر وقاتلهم ثم قصد قرطاجنة وافتتحها ولما عاد عنها امتنعت ثانية فرجع إليها وحاصر أهلها حتى ألجأهم للتسليم بعد أن فرَّ منهم من طريق البحر مَن فر ثم أمر بتخريبها فخربت وعفا أثرها ومن أنقاضها عمرت تونس وهذا التخريب وإن عد عند الأثريين سيئة لحسان إلا أنه عند السياسيين ليس بشيء لأن الدول من دأبها أن يعفي اللاحق منها أثر السابق وإذا خرب المسلمون في إفريقية هذه المدينة فقد أقاموا مدناً غيرها ربما كانت أعظم منها كتونس والقيروان والقاهرة وغيرهن وإنما تفضل قرطاجنة على غيرها باعتبار أنها أثر قديم من آثار أمة عظيمة كان لها شأن كبير في التاريخ لذا فليس ببدع أن يأتي حسان ما أتاه ويأتيه غيره في كل دولة من الدول لا سيما وإنما اعتبار البلدان التاريخي الأثري لم يكن في تلك العصور بالمنزلة التي انتهى إليها في هذا العصر.
واعلم أن إفريقية تداولتها دول قبل الفتح الإِسلامي المعروف منها أربع دول ويعبر عنها بالأطوار الأربعة:
[الطور الأول]
دولة قرطاجنة تأسست سنة ٨٨ هـ قبل المسيح أسستها ديدون المذكورة، وقد بلغت هاته الدولة الغاية في الحضارة والعمران والقوة، لهم معرفة وحذق بأساليب الملاحة والتجارة وما وقع الاكتشاف عليه من آثارها يدل على ذلك، واستولت على جزير كثيرة وامتدت شوكتها في الأرض وبعد صيتها حتى صارت لا ترى غيرها وزعيمتها إذ ذاك في الشوكة دولة الرومان برومة وكانت على غاية في القوة فرام صاحب قرطاجنة هنبال القائد الشهير محاربتها فأول ما بدأها به استيلاؤه على صقلية ثم انتشبت الحرب بين الدولتين وتوالت وقصد الرومان قرطاجنة بأسطول مهول ونزلوا بمرسى قليبية. وأشهر الوقائع في هاته الحرب انتصار القنصل الروماني