تنبيه: قد علمت ما حلّ بإفريقية من المحن وأن العلم ضعف بذهاب رجاله وبأثر ذلك وقع الاحتلال العثماني فابتدأت حينئذ ترجع عمرانها وتستجد شبيبتها وصادف وفود مئات آلاف من الأندلس وجالية غرناطة وعمروا نيفاً وعشرين قرية بين كبيرة وصغيرة لكن التراجع كان بطيئاً بالنسبة لبث العلوم لأنه لما آل الأمر لهاته الدولة وكان الذين قدموا من الأتراك لإفريقية غير منتظمي التصرف إلا القليل منهم لم يقع منهم التفات لتدارك العلم الذي كاد أن يضمحل في ذلك العهد ثم عاد لهذا القطر المأنوس ما انقطع عنه شيئاً فشيئاً إلى هذا الوقت على ترتيب الطبقات الآتية فكل طبقة هي أرقى من التي قبلها. قال الشيخ حمودة بن عبد العزيز في باشيه: خرج من الأندلس ألوف لفاس وألوف لوهران وتلمسان وجمهورهم جاء لتونس فعمروا بها القرى الخالية واستحدثوا فرى سكنوها واستقرت حاضرتهم بالحاضرة فاستحكمت فيهم الحضارة التي عوائدها مرتكزة في طبائعهم واستحدثوا بها صناعة الشاشية التي تقصدها التجار من سائر الأقطار وقصدها الترك من بلاد الخلافة وغيرها ومن مصر فارتفعت بهم أوج العلا ووردت عليهم العلماء من الآفاق فتخرج بهم الكثير من العلماء وشرع أمراؤها في اتخاذ المصانع وتوفير الملك. انتهى بتصرف واختصار. وقال: قد كان العلم لأول دولة الترك مرتفعاً منها بالمرة حتى ورد عليها المولى أحمد أفندي من أرض الروم في أول المائة الحادية عشر على عهد عثمان داي وكان متفنناً في العلوم فأخذ عنه جماعة من أهلها منهم الشيخ محمَّد الغماد وأبو يحيى الرصاع والشيخ محمَّد براو وارتحل للمغرب الأقصى وافداً على سلطانها مولاي أحمد الذهبي فوجده يقرىء المطول للمولى سعد الدين بالجامع كل يوم فأوسعه مبرة وإكراماً ثم عاد لتونس فكان يقول: وجدت بجامع القرويين سبعة عشر كرسياً يقرأون التفسير وكلهم عن التفسير بمعزل إلا أن ملكهم يفهم الخطاب ثم ارتحل بعد ذلك إلى بلاده فكانت بها هاته الطبقة التي ذكرناها ومَن عاصرهم كأبي الفضل عظوم وغيره وانتشر بها العلم. انتهى.
وكانت القضاة تجيء إلى تونس من دار الخلافة والغالب عليهم المعجمة ومذهبهم مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فاحتاجوا حينئذ إلى نائب يكون بين يدي القاضي فيكون بمثابة قاضي الخصومات والقاضي التركي بمثابة قاضي الجماعة واحتاجوا أيضاً لمجلس كما جرت به العادة في دولة بني أبي حفص يجعلونه بين يدي الباشا في هذه الدولة وكان يحضر بالمجلس أربعة من المفتين والمراد من حضورهم الأخبار بالأمور الشرعية إذا سئلوا عنها والقاضي ينفذها وأول مَن تصدر بتونس مفتياً حنفياً الشيخ أبو الحسن علي الشريف وباحتلال الدولة التركية أخذ