من مناقبه الكريمة ومآثره العظيمة جمعه القرآن ولا يعلم قدر فضله بهذا العمل الجليل إلا من عانى أمر الحديث وعرف مقدار ما اجترىء فيه على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جماعة القصاص والوعاظين الذين شوّشوا على الأمة في الدين والسياسة والأخلاق تشويشاً الله أعلم بما جر على الأمة من النبلاء ولو لم ينهض أئمة الحديث وحفاظه أواخر القرن الثاني وما بعده إلى تلافي هذا الخطب وتتبع الأسانيد الصحيحة وترتيب درجات الحديث وتفريق الموضوع من الصحيح لكان الخطب أعظم والمصيبة أشد. أما القرآن فلله الحمد والمنة على أنه سبحانه تكفل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر: ٩]، وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)} [فصلت: ٤٢] لهذا كان أول ما ألهم إليه أبو بكر النهوض إلى جمعه من صدور الرجال وبعض الصحف فجمع وكتب بين الدفتين دون أن يلحق حرفاً واحداً منه تغيير أو تبديل وقد تقدم شرح ما ذكر في المقدمة، وهو أيضًا أول مَن سمي خليفة وأول من أسلم من الرجال وأول من وضع بيت المال.
ولما مرض رضي الله عنه مرضه الذي توفي فيه عهد بالخلافة لعمر رضي الله عنه. وكتب له عهداً في ذلك ونصه:
بسم الله الرحمن الرحيم "هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت فلا علم لي بالغيب ولكل امرئ ما اكتسب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
توفي رضي الله عنه في مرضه المذكور. روى الحاكم أن سبب موته وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمداً بما يجري -أي ينقص- حتى مات. قال الحافظ ابن حجر: وهو مرض السل. وأخرج الإِمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها "أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين. قال: فإن من في ليلتي فلا تنظروا في الغد فإن أحب الأيام والليالي إلى أقربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي من ليلته تلك وهي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة وله من العمر ثلاث وستون سنة وغسلته امرأته أسماء كما أوصى وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر وكبر أربعاً ودفن إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وأخرج ابن هشام عن ابن عروة عن أبيه: أن أبا بكر صلى عليه ليلاً ودفن ليلاً وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وبضعة أيام، وكان نقش خاتمه: نعم القادر الله.