في الاعتصام أن الله بعث إلينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً ولا نعرف من مصالحنا الدنياوية إلا قليلاً على غير كمال ولا من مصالحنا الأخروية كثيراً ولا قليلاً، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف بين الناس كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}[البقرة: ٢١٣] وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}[يونس: ١٩] ولم يكن حاكم بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا وهو مما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق فاحتفظت الأديان والدماء والعقول والإنساب والأموال من طريق يعرف مأخذها العلماء وذلك القرآن العظيم بل المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً وإقراراً، ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم، فإذا ترك المبتدع هذه المهمات العظيمة والعطايا الجزيلة وأخذ في استصلاح نفسه ودنياه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة وقد حلّ يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: ١٠٣] بعد قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}[آل عمران: ١٠٢] فاشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} والفرقة من أحسن أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة الإِسلام. روى عبد الله بن حميد عن عبد الله: أن حبل الله الجماعة. وعن قتادة: حبل الله المتين هو القرآن وسننه وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير والثقة وأن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ}[الحج: ٧٨] اهـ. وفيه لولا أن منَ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين. وفيه أيضاً الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وهي حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم بل إن المرسلين بها صلوات الله عليهم