بوجود أحزاب ينصرون النازع إلى الملك وأعوان يتبعون القوة أو يناضلون عن صاحب الحق في كل قوم وعصر وإنما صبغ السلف لهذه الفتنة بصبغة دينية هو الذي يجعل الباحث بين إقدام وإحجام مع أنها فتنة سياسية تابعة لمجرى السنن الطبيعية في الدول إذ ما دامت شؤون البشر لا تستقيم إلا بالوازع، والمجتمعات لا تقوم إلا بحاكم يدير أمورها وينظم شؤونها وينفذ قوانينها. فالخلاف في رياسة الدول والنزاع على منصب الحكم متوقع بين الطامحين إليه القادرين عليه في كل أمة وجيل وتنازع البقاء في الملك أمرطبيعي كما هو في كل الأشياء.
[خلاصة فيما عليه أهل السنة في هاته الفتنة]
تقدم أن الطاعنين في عثمان - رضي الله عنه - نقموا عليه أشياء وعابوه، منها ثقته في قرابته بني أمية فتغلبوا عليه وتولوا أعظم الولايات وذلك لا يعاب عليه فيه لأنه كان باجتهاد منه وطلباً لإظهار العدل لأنه رأى أن أقاربه يعينونه على إظهار العدل وإقامة الحق وهكذا جميع الأشياء التي عابوه بها كلها كانت اجتهادية وله فيها أعذار ومخارج تدل على أنه إنما أراد بذلك العدل وإظهار الحق وكلها مبسوطة في كتب السنة، ولما حصره الناقمون وقتلوه بايع الناس بعده علي بن أبي طالب وبايعه أيضاً القوم الذين حصروا عثمان وقتلوه فوقعت الفتنة بين الصحابة - رضي الله عنهم - لذلك فقال الذين امتنعوا من بيعته: لا نبايعك حتى تعطينا قتلة عثمان نقتص منهم، فقال علي: بايعوني أولاً ثم بعد ذلك نتبع قتلة عثمان فمَن ثبت عليه شرعاً موجب القصاص نقتص منه وأما الاقتصاص منهم قبل دخولكم في البيعة فإنه عسير جداً لأن لهم قبائل وعشائر يتعصبون لهم فتنتشر الفتنة وتزداد. هذا هو السبب في الخلاف الذي وقع بينهم فنشأ عنه وقعة الجمل ووقعة صفين وتمسك كل من الفريقين لحجج وأدلة وتعارضت الأدلة عند بعضهم وهم نحو العشرة آلاف فاعتزلوا الفريقين منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وبقي الأمر مشتبهاً بين الناس إلى زمن الأئمة الأربعة فنظروا في الحجج والأدلة التي تمسك بها كل فريق فظهر لهم واتضح تصويب اجتهاد علي - رضي الله عنه - وتخطئة اجتهاد غيره لكن لما كان ذلك الخطأ ناشئاً عن اجتهاد لم يأثموا به لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اجتهد وأصاب فله أجران ومَن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد" فلا سبيل إلى الحكم بتأثيم أحد منهم فلذلك كان مذهب أهل السنة السكوت عما جرى بين الصحابة - رضي الله عنهم - وتأويله وحمله على أحسن المحامل تحسيناً للظن