اعلم أن الحالة الاجتماعية التي كانت على عهد الرسالة كانت كذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقد نهض أبو بكر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإتمام نشر الدعوة وتوحيد كلمة الشعوب نهوضاً يعلم من سيرته. فرمى رضي الله عنه بالجيوش الإِسلامية فارس والروم ليكونوا حماة الدعوة بعد إذ لم تنجح فيهم الدعوة مجردة على القوة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فخالط المسلمون تلك الأمم البالغة منتهى درجات الرفاهة والتنعم المنغمسة في حمأ الشهوات النفسية ودوّخوا بلادهم واستفتحوا كنوزهم ومع هذا فلم يؤثر ذلك في أخلاقهم ولم تدعهم تلك الزخارف إلى تنكب المحجة الواضحة التي تركهم عليها نبيهم لا سيما وأن القرآن بين أيديهم يهتدون بهديه وأبو بكر من ورائهم يحملهم على طريقته ويؤدبهم بأدب نفسه، وكان جل أمره منصرفاً إلى إقامة شعائر الدين، والتأدب بآداب النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً في خشونة العيش وكبح جماح النفوس والقناعة بالكفاف، هذا مع علمه بأن الله سبحانه وتعالى أحلّ الطيبات للمؤمنين، وإنما هو كان حريصاً على تأدب المسلمين بآداب النبوة وآدابه كي لا يشغلهم عن بث الدعوة والجهاد في الله وتوحيد كلمة الشعوب شاغل الإخلاد إلى الراحة والرغبة بنعيم الحياة الفانية وأنى يشغلهم شيء عن أمر الله وهم خير أمة أخرجت للناس وعصرهم خير العصور.
وكيف لا يكون خير العصور وقد كان فيه المؤمنون على جانب من سلامة الفطرة وطهارة الأخلاف وتآلف القلوب، ونصرة العدل والحق، ومواساة الضعيف والقيام بواجب الإخاء وتبادل الثقة والحب لم تبلغ مبلغهم في أمة حديثة عهد في الدين من قبل ولن يأتي أمة سواهم من بعد.
روى الغزالي في الأحياء: أن تبادل الثقة والحب بين المسلمين يومئذ بلغ بهم أن كانوا خلطاء بالمال يأخذ فقيرهم من مال الآخر مصداقاً لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
كان أبو بكر رضي الله عنه خير قدوة للمسلمين وكان على جانب من التواضع وشظف العيش وخشونة الملبس مع غناه ووفرة دخله من أملاكه فقد اقتدى به المسلمون وتخوشنوا في مأكلهم وملبسهم وتعفف كبارهم حتى عن التنعم بدخلهم. في تاريخ المسعودي: لما قدم على أبي بكر زعماء العرب وأشرافهم وملوك اليمن وعليهم الحلل وبرد الوشي المثقل بالذهب والتيجان والحبرة وشاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك وما هو عليه من الوقار والهيبة، ذهبوا مذهبه