علمه في الأمصار واشتهر فضله في الأقطار ضربت له أكباد الإبل وارتحل الناس إليه من كل فج. قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم وجعلت مالكاً بيني وبين الله حجة وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته وقال: ما على الأرض كتاب أقرب إلى القرآن من كتاب مالك بن أنس الموطأ وهو بصفة المفعول المشدد الطاء المهملة المهموز سمي به لما فيه من أحاديث الأحكام الممهدة للشريعة. وقال بعضهم: إنما سمى كتابه الموطأ لأنه عرضه على بضعة عشر تابعياً وكلهم واطئوه على صحته وقد جرب أن الحامل إذا مسكته وضعت حملها. وقال أبو زرعة: لو حلف رجل بالطلاق على أن أحاديث مالك التي في الموطأ صحاح لم يحنث ولما ألف الموطأ اتهم نفسه بالإخلاص فيه فألقاه في الماء وقال: إن ابتل فلا حاجة لي به فلم يبتل منه شيء. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: الموطأ هو الأصل الأول واللباب والبخاري الأصل الثاني في هذا الباب وعليهما بني الجميع كمسلم والترمذي. وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلاد وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك قال: لما حج المنصور قال: عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها أن تنسخ ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منه نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيرها. فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. وقال القاضي عياض: لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ، وعد نحو ستين رجلاً اعتنوا به اعتناء فوق ما يقال وكان يقول في فتواه ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وكان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدث به إلا متمكناً من طهارة وكان يقام بين يديه الرجل كما يقام بين يدي الأمراء؛ وكان مهاباً جداً إذا أجاب في مسألة لا يمكن أن يقال له من أين، وكان الثوري إذا جلس بين يدي مالك ونظر إلى إجلال الناس له وإجلال مالك للعلم أنشد:
يأبى الجواب فلا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان