كتاب الله عز وجلّ ويرددها، وكان هارون رجلا رقيقا فبكى بكاء شديدا، ثم قال لي: اقرع الباب، فقرعته فقال: من هذا؟ فقلتُ: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلتُ: سبحان الله أوما عليك طاعة؟ أوليس قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه"؟
قال: فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة وأطفا السراج والتجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجلس فيها فجعلنا نجول عليه بايدينا فسبقت كف هارون قبل كفي إليه، فقال: أوه من كف ما ألينها، إن نجت من عذاب الله، قال: فقلتُ في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، قال فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال له: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه، فكتب إليه: يا أخي اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإن ذلك يطرق بك إلى الرب نائما ويقظانا، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد لك ومنقطع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا وليت ولاية حتى ألقى الله، قال: فبكى هارون الرشيد بكاء شديدًا ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد بُليتُ بهذا البلاء فأشيروا علي فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله تعالى فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك، وقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله تعالى فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله تعالى فأحب للمسلمين ما تحب لنفسلك، واكره لهم ما تكره لنفسك، وإني لأقول لك هذا وإني لأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يأمرك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه، فقلتُ: ارفق بأمير المؤمنين فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، ثم إنه أفاقا، فقال: زدني رحمك الله، فقال له: يا أمير المؤمنين يا حسن الوجه: أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من حر النار فافعل، فقال له هارون: عليك دين؟