للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المقدمة]

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: ١] و (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: ١]، والصلاة والسلام على مَنْ بَعَثَه رَبُّه هَادِيا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا. أزَال بِه كُلّ غُمَّة، وكَشَف بِه كُلّ مُدْلَهِمَّة، وأبَان بِه وَجْه صُبْح الْحَقّ أبْيَض نَيِّرا؛ حَتى تَرَك أمَّتَه على الْمَحَجَّة البَيْضَاء، لَيْلُهَا كَنَهَارِها، لا يَزِيغُ عَنها إلَّا هالِك.

أمَّا بعد:

فإنَّ العِلْم يَشْرُف بِشَرَف مُتَعَلِّقِه، وإنَّ أفْضَل العُلُوم مَا تَعَلَّق بِكِتَاب رَبِّ العَالَمِين، كيف لا؟ وكِتَاب الله فِيه نَبأ مَا قَبْلَنا، وخَبَر مَا بَعْدَنا، وحُكْم مَا بَيْننا، هو الفَصْل ولَيس بالْهَزْل، وهو حَبْل الله الْمَتِين، والذِّكْر الْحَكِيم، والصِّرَاط الْمُسْتَقِيم.

وَلَمَّا كَان "كِتَاب الله هو الكَفِيل بِجَمْع عُلُوم الشَّرْع الذي اسْتَقَل بِه السُّنَّة والفَرْض، وَنَزَل بِه أمِين السَّمَاء إلى أمِين الأرْض، رَأيْتُ أن أشْتَغِل بِه مَدَى عُمُرِي، وأسْتَفْرِغ فِيه مُنَّتِي" (١).

فَقَد اسْتَخَرْتُ الله تَبَارَكَ وتَعَالى أن أُقدِّم شَيئًا لَه تَعَلُّق بِكِتَاب الله وتَفْسِيرِه، ولَمَّا كان تَفْسير أبي عبد الله القرطبي الْمُسَمَّى "الْجَامِع لأحْكَام القُرآن والْمُبِين لِمَا تَضَمَّن مِنْ السُّنَّة وآي الفُرْقَان" (٢)، مِنْ التَّفَاسِير الْمُعْتَمَدَة الْمَشْهُورَة لَدَى أهْل العِلْم، مَع سَعَة العِبَارَة، وتَنَوُّع الْمَعَارِف فيه، وعَدَم اقْتِصَارِه على آيات الأحْكَام -وإن كان أوْلَاهَا عِنَايَة خَاصَّة- فهو سِفْر جَلِيل، وكِتَاب نَفيس؛ وكَان ذَلك السِّفْر مِنْ أجَلّ كُتُب التَّفْسِير، رَأيتُ أن أدْرُس جَانِبًا مِنْ جَوَانِب ذلك الكِتَاب، أذبّ مِنْ خِلالِه عن كِتَابِ رَبّ العَالَمِين، وأُبِين للقَارِئ الكَرِيم عِنايَة القرطبي بِهذا الشأن، وهو دَفْعُ وَهُّم التَّعارُض.


(١) من كلام القرطبي في مقدمة تفسيره المسمى "الجامع لأحكام القرآن" (١/ ٢٩) ومعنى "مُنَتِي" قوتي. "والمنة بِالضَّم: القُوة" لسان العرب، ابن منظور (١٣/ ٤١٥).
(٢) ذَكَره بهذا الاسم: القرطبي في المقدمة، وفي "كشف الظنون"، حاجي خليفة (١/ ٥٣٤): جامع أحكام القرآن والْمُبِين لِمَا تَضَمَّن مِنْ السُّنَّة وآي الفُرْقَان.

<<  <   >  >>