للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَعْذِيب مَنْ استَمْتَع بالطَّيِّبَات في الْحَيَاة الدُّنيا، والعَذَاب لا يَكُون على أمْرٍ مُبَاح.

[جمع القرطبي]

قال القرطبي في آيَة "الأعراف": قَوله تَعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) بَيَّن أنَّهم حَرَّمُوا مِنْ تِلْقَاء أنْفُسهِم مَا لَم يُحَرِّمْه الله عَليهم. والزِّينَة هُنا الْمَلْبَس الْحَسَن إذا قَدِر عليه صَاحِبه. وقيل: جَمِيع الثِّيَاب، كما رُوي عن عمر: إذا وَسَّع الله عليكم فأوسِعُوا (١).

ثم ذَكَر أحَادِيث وآثَارَ في لُبْس الْجَيِّد والتَّجَمُّل، كَمَا ذَمَّ لُبْس الصُوف والْخَشِن، ومَا يُزْرِي بِصَاحِبِه مِنْ اللبَاس (٢)، وأوْرَد فيه أثَارًا، ثم أوْرَد بَعْد ذلك سُؤَالًا قَال فيه: فإن قَال قَائل: تَجْويد اللبَاس هَوى النَّفْس، وقد أُمِرْنا بِمُجَاهَدَتِها، وتَزَيُّن للخَلْق، وقد أُمِرْنا أن تَكُون أفْعَالُنا لله لا للخَلْق؟

فَالْجَوَاب: ليس كل ما تَهواه النفس يُذَمّ، وليس كل ما يُتَزَيّن بِه للنَّاس يُكْرَه، وإنَّمَا يُنْهَى عن ذلك إذا كَان الشَّرْع قد نَهَى عنه، أوْ على وَجْه الرِّيَاء في بَاب الدِّين، فإنَّ الإنْسَان يجب (٣) أن يُرى جَمِيلًا، وذلك حَظٌّ للنَّفْس لا يُلام فيه (٤).

ثم قال: قَوله تَعالى: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) الطَّيِّبَات اسْم عَام لِمَا طَاب كَسْبا وطَعْما.

قال ابن عباس وقتادة: يَعْنِي بِالطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق مَا حَرَّم أهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ البَحَائر والسَّوَائب والوَصَائل والْحَوَامِي. وقِيل: هي كُلّ مُسْتَلَذّ مِنْ الطَّعَام.

وقد اخْتُلِف في تَرْك الطَّيِّبَات والإعْرَاض عن اللذَّات؛ فَقَال قَوم: ليس ذلك مِنْ القُرُبات، والفِعْل والتَّرْك يَسْتَوي في الْمُبَاحَات. وقَال آخَرُون: لَيس قُرْبة في ذَاتِه، وإنَّمَا هو سَبِيل إلى الزُّهْد في الدُّنيا وقِصَر الأمَل فيها، وتَرْك التَّكَلُّف لأجْلِها؛ وذلك مَنْدُوب إليه، والْمَنْدُوب قُرْبَة.


(١) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (٧/ ١٧٥).
(٢) يرى المقري أن هذه سمة في أهل الأندلس، إذ يقول في "نفح الطيب" (١/ ٢٢٣): وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون وغير ذلك، مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائمًا، ويبتاع صابونًا يغسل به ثيابه! ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.
(٣) قال عبد الرزاق المهدي في تحقيقه للجامع لتفسير القرآن: لعل الصواب "يُحِبّ".
(٤) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (٧/ ١٧٧، ١٧٨) بتصرّف.

<<  <   >  >>