للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الثالث: أثر عقيدة القرطبي في توهّم التعارض

مِنْ الْمُتَقرِّر أنَّ الإنْسَان ابن بِيئَتِه، فَيُؤَثِّر ويَتَأثَّر؛ يُؤثِّر في غَيره، ويَتَأثَّر - قَبْل ذلك - بِغَيْرِه. بل إن الإنسان يتأثَّر بِما يُصاحِب، ولو كان مِنْ العَجْماوات، وفي الحديث: الفَخْر والْخُيَلاء في أهْل الْخَيْل والإبِل، والفَدَّادِين أهْل الوَبَر، والسَّكِينَة في أهْل الغَنَم (١)! "ويُعَبِّر الْحُكَمَاء عن هذا بِقَولهم: الإنسان مَدَنِيّ بِالطَّبْع، أي: لا بُدّ لَه مِنْ الاجْتِمَاع" (٢).

وكَثِيرًا مَا يَتَأثَّر الْمُتَعَلِّم بِمُعَلِّمِيه، والتِّلْمِيذ بِمَشَايخه، وقد يَتَلَقَّى مِنهم مَا لَيس بِالْحَسَن، ظانًّا أنه حَسَن؛ لأنَّهم مَوْضِع ثِقَتِه.

وأحْيَانًا يَتَلقَّى التِّلْمِيذ مِنْ شَيخِه مَا يَعْقِد عليه قَلْبه، ثم لا يُمَحِّص مَا تَلَقَّاه، خَاصَّة إذا انْشَغل أو تَخَصَص في غير ذلك الفَنّ.

وقد تَكُون بِيئة العَالِم تُحَتِّم عليه ذلك التَّوَجُّه، أو تُلْزِمه تلك العقيدة، وتُؤخَذ تلك العقيدة على أنها الْحَقّ الذي لا يَجُوز اعْتِقَاد غيره.

وقد شَهِد التَّارِيخ شَيئًا مِنْ التَّعَسُّف في حَمْل النَّاس على مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِب، "فإنَّ صَاحِب الغَرْب (٣) يُوسف بن يعقوب مَنَع مِنْ قِرَاءَة الفُرُوع جُمْلَة، وبَالَغ في ذلك وألْزَم النَّاس بِأخْذ الفِقْه مِنْ الكِتَاب والسُّنَن على طَرِيقَة أهْل الظَّاهِر، فَنَشَأ الطَّلَبَة على هَذا بِالْمَغْرِب مِنْ بَعْد سَنَة ثَمَانِين وخَمْس مِئة" (٤).

فلا غَرْو إن وُجِد في زَمَن مِنْ الأزْمِنَة مَنْ تأثَّر بِبَعْض الْمَدَارِس الفِقْهِيَّة أو الاعْتِقَادِيَّة حين يَنْشأ الصَّغير ويَهْرَم الكَبِير على ذلك الأمْر الذي قد يُعْتَبَر عِند كَثِير مِنْ النَّاس مِنْ الثوابت التي لا تَجُوز مُخَالَفَتها.


(١) رواه البخاري (ح ٣١٢٥)، ومسلم (ح ٥٢).
(٢) مقدمة ابن خلدون (ص ٤١).
(٣) هكذا في المطبوع، ولعلها "المغرب" فإنه كان "سلطان المغرب"، وانظر: الوافي بالوفيات (٢٨/ ٩٨).
(٤) سير أعلام النبلاء، مرجع سابق (٢٢/ ٣١١)، و"الوافي بالوفيات"، مرجع سابق (٢٨/ ٩٩).

<<  <   >  >>