للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الثاني: الفرق بين كشف معنى الآية بإكثار الأقوال، وبين العناية بدفع توهّم التعارض، ومظانّ الجمع بين الآيات

اعْتَنَى العُلَمَاء بأقْوَال أئمَّة التَّفْسِير الْمُتَقدِّمِين مِنْ عَصْر الصَحَابة فَمَنْ بَعْدَهم (١)، وذلِك لِعِدَّة اعْتِبَارَات:

الأوَّل: كَوْن الصَّحَابة رضي الله عنهم شَاهَدُوا التَّنْزِيل، وحَضَرُوا وقَائِعَه، بالإضَافَة إلى أنَّهم "كَانوا خَير هَذه الأُمَّة؛ أبَرّها قُلُوبًا، وأعْمَقَها عِلْمًا، وأقَلّها تَكَلّفًا، قَوم اخْتَارهم الله لِصُحْبَة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ونَقْل دِينِه … فَهُمْ أصحَاب محمد صلى الله عليه وسلم كَانوا على الْهُدَى الْمُسْتَقِيم" (٢).

الثَّاني: كَوْنهم أهْل اللغَة والفَصَاحَة، إذ كانوا في زَمَن لم يَتَفَشّ فيه اللَحْن.

قال أبو بكر بن الأنباري: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - مِنْ تفضيل إعراب القرآن والْحَضّ على تعليمه وذَم اللَّحْن وكَرَاهِيته - ما وَجب به على قُرّاء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تَعَلُّمه (٣).

الثَّالث: أنَّهم الْجَمَاعة، والْجَمَاعة أبْعد عن الْخَطَأ مِنْ الوَاحِد.

الرَّابِع: أنَّ مَنْ أخَذ بِأقْوَال السَّلَف لَم يَخْرُج - في الغَالِب - عن الْجَادَّة، إذ يَقول بِقَول له فيه سَلَف، مَا لَم يَتَّبِع الشَّاذّ مِنْ الأقْوَال، أوْ الْمَهْجُور مِنها.

ولذا كان أحمد بن حنبل (٤) يقول: إياك أن تَتَكَلَّم في مَسْألَة ليس لك فِيها إمَام (٥)


(١) وسبق في الفصل الثاني: المبحث الثاني: جمع القرطبي بين الآيات من خلال إيراد أقوال السلف، وأشرت إلى عنايته بذلك هناك.
(٢) هو من قول ابن عمر رضي الله عنهما. رواه عنه: أبو نعيم في "الحلية" (١/ ٣٠٥)، وذكر نحوه عن ابن مسعود وعن الحسن البصري: ابن قُدامة في "ذم التأويل" (ص ٣٢).
(٣) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (١/ ٥٦).
(٤) عندما أذكر أسماء الأئمة الأعلام مجردة عن الأوصاف فإنني أتبع منهجًا علميًا صرفًا، وليس لحاجة في النفس ثم إن أكابر أتباع الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة يذكرون أسماء الأئمة مجردة عن كل وصف.
انظر: "الاستذكار" ابن عبد البر (١/ ١٣، ١٦، ٢١ ومواضع أخرى كثيرة)، و"الجامع لأحكام القرآن" مرجع سابق (١/ ١٠، ٨٨ ومواضع أُخرى)، و"المغني" ابن قدامة (١/ ٢٣، ٢٣ ومواضع أُخرى كثيرة).
(٥) ذكره ابن تيمية "مجموع الفتاوى"، مرجع سابق (٢١/ ٢٩١)، وابن القيم "إعلام الموقّعين" (١/ ٣٢).

<<  <   >  >>