للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَكْتُمُون كُفْرَهم وجُحُودَهم، فإنَّ ذلك يَكون في بَعْض مَوَاضِع القِيَامَة حِين يَظُنُّون أنْ جُحُودَهم يَنْفَعُهم مِنْ عَذَاب الله، فإذا عَرَفُوا الْحَقَائق وشَهِدَتْ عليهم جَوَارِحُهم حِينَئذٍ يَنْجَلِي الأمْر، ولا يَبْقَى للكِتْمَان مَوْضِع، ولا نَفْع ولا فَائدَة" (١).

[رأي الباحث]

لا تَعَارُض بَين الآيَات، وذَلك أنَّ الكُفَّار إنما يَقُولُون: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عِند مُعَايَنَة فَضْل الله ورَحْمَته ولُطْفه بأهْل الإيمان طَمَعًا في السَّلامَة والنَّجَاة، وإلَّا فإنهم قَدْ أيقَنُوا بِصِدْق الرُّسُل، وعَلِمُوا أنَّ الله لا تَخْفَى عَليه خَافِية، ولِذَا يَتَمَنَّى الكُفّار أنَّ تُسَوَّى بِهم الأرْض ولا يَكْتُمُون اللهَ حَدِيثًا، ويَزِيد هَذا اليَقِين عِند إنْكَار بَعْضِهم لِمَا كَان مِنهم في الدُّنيا - رَغْبَة في النَّجَاة - فَيَخْتِم الله عَلى ألْسِنَتِهِم ويُشْهِد عَلَيهم جَوَارِحَهم.

فهذا يَدُلّ عَلى أنَّ الكَذِب والكِتْمَان وَاقِع مِنْ الكَافِرِين والْمُنَافِقِين في بَعْض الأحْوَال دُونَ بَعض، ومِن بَعْض الأشْخَاص دُونَ بَعض.

ونُكْتَة الْمَسْأَلَة التي قَلَّ مَنْ نَبَّه عَليها أنَّ قَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) لا يَنْفَكَّ عن السِّياق، وذلك أنَّ مَا قَبل هَذه الآية في الْخَبَر عَنْ قِيَام الأشْهَاد، وشُهُود الرُّسُل على أُمَمِهم، وذَلك قَوله تَعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: ٤١]، ثم قَال سُبحانه وتَعالى: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء: ٤٢]؛ فَهَذا حين مَجيء الرُّسُل، وحين يَشْهَدُون عَلى أُمَمِهم فَكَيف يَكُون الْحَال حِينَئذٍ؟ "كَيْف تَكُون تِلك الأحْوَال، وكَيْف يَكُون ذَلك الْحُكْم العَظِيم الذي جَمَع أنَّ مَنْ حَكَمَ به كَامِل العِلْم، كَامِل العَدْل، كَامِل الْحِكْمَة، بِشَهَادَة أزْكَى الْخَلْق، وهُم الرُّسُل على أُمَمِهم، مَع إقْرَار الْمَحْكُوم عَليه؛ فَهَذا - والله - الْحُكْم الذي هو أعَمّ الأحْكَام وأعْدَلِها وأعْظَمِها، وهُناك يَبْقَى الْمَحْكُوم عَليهم مُقِرِّين


(١) تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص ٢٠٨).

<<  <   >  >>