للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الأول: إفادة القرطبي ممن سَبقوه، وإفادته لمن أتوا بعده، وموافقة غيره له

لَمّا كان هذا الْعِلْم نَسَب ووشِيجَة بَيْن أهْلِه، أفَاد اللاحِق مِنْ السَّابِق، إلَّا أنَّ اللاحِق قد يَكُون أبْصَر بِمَوَاقِع الْخَلَل؛ تَارَة حِين تَكُون بِدَايات العِلْم وتأصِيلاته، ولَمَّا يَسْتوي ذلك العِلْم على سُوقِه ويَشْتَدّ، وتَارَة حِين يَكُون السَّابق في زَمَانِ قُوَّة لِدَوْلَة الإسْلام، وهَيمَنة الْحَقّ، وانْزِواء البَاطِل، فلا يَكَاد البَاطِل، يَرْفَع رَأسًا! ولا يُظهِر وَجْهًا، فإذا مَا ضَعُفَتْ دَوْلَة الإسْلام، أوْ خَبَا نُور الْحَقّ، ظَهَرَتْ خَفَافِيش الظَّلَام، إذْ أنَّ "نُور الْحَقّ أضْوأ مِنْ الشَّمْس، فَيَحِقّ لِخَفَافِيش البَصَائر أنْ تَعْشُو عَنه" (١).

وعند ذلك تُثَار الشُّبُهَات، وتَرُوج الأبَاطِيل؛ لِهَذا وغيره فَقد يَكُون العَالِم أنْبَه إلى دَحْض الشُّبُهَات، وإلى تَفْنِيد الأبَاطِيل؛ لِمَا قد يَكُون في عَصْرِه مِنْ رَوَاجٍ لَها، واغْتِرَارِ فِئام مِنْ النَّاس بِزُخْرُف القَول.

ومِن هَذا الْمُنْطَلَق فإنَّ عِنَايَة القُرطبي بإزَالة الشُّبْهَة حَوْل النَّصّ، ودَفْع التَّعَارُض رُبَّمَا كَانت أبْرَز مِمَّا لَدَى بَعض مَنْ سَبَقُوه.

وقد أفَاد القرطبي مِنْ أئمَّة التَّفْسِير واللغَة، وأفاد مِنه مَنْ أتَى بَعْدَه في مَجَالات شَتَّى.

أمَّا إفَادَة القرطبي مِمَّنْ سَبَقُوه فَقَد أفَاد من ابن جرير، وهو يَنقُل عنه كَثِيرًا ولا يُشِير إليه إلَّا في مَوَاضِع قَلِيلة، بِخِلاف ابن كثير، فإنه إذا نَقَل صَرَّح بِمَنْ يَنْقُل عنه.

كَمَا أنَّ القرطبي يَنقُل عن ابن عطية كَثِيرًا، ويَذكُره صَرَاحة في بَعض الْمَوَاطِن، ويَنْقُل عنه ولا يُشير إليه في مَوَاطِن أُخْرَى.

وسَوف أقتَصِر في هذا المبحث على مِثَالَين في إفَادَته مِمَّنْ سَبَقَه، ومِثَالَيْن في إفَادَة مَنْ أتَوا بَعده مِنه؛ إذ الْمَقْصُود بَيَان طَرِيقَتِه، وإيضَاح منهجه، وأثَره فِي مَنْ أتَى بَعده في هذا الجَانِب لِدَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض.


(١) الفوائد، ابن القيم (ص ٨٢).

<<  <   >  >>