للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عناية الإمام القرطبي بالجمع بين الآيات

اعْتَنَى القُرطبي بالْجَمْع بين الآيَات حتى بَرَز هذا الْجَانِب في تَفْسِيرِه، وظَهَر واضِحًا جَلِيًّا.

ومِن خِلال الفَصْلَين السَّابِقَين اتَّضَحَتْ عِنَايته بِالْجَمْع بَيْن الآيَات، وبَرَزَتْ مَلامِح مَنْهَجِه مِنْ خِلال الطُّرُق التي تَمّ عَرْضها ودِرَاسَتها.

وقد أفَاد مِمَّنْ سَبَقُوه، وأفَاد مِنْ جُهُوده مَنْ لَحِقُوه؛ وهذه طريقة الرَّاسِخِين في العِلْم، يَعرف أَحَدُهم فَضْل مَنْ سَبَقُوه في هذا الفَنّ، فَيسْتَفِيد مِنهم مَع تَقْيِيد مَا يَعِنّ له مِنْ رَأي وقَوْل "يَفْتَضّ فِيه للعِلْم أبْكَارَه، ويَجْنِي مِنْ رَوْضِه اليَانِع ثِمَارَه" (١)، فَيُفِيد مِنه مَنْ أتَى بَعْده، لِمَا أبْتَكَرَه مِنْ مَحَاسِن الْمَعَانِي، ولِمَا نَظَمَه مِنْ فَرِيد الْجَوَاهِر في سِلْك الاتِّبَاع، مُجانِبًا لِسُبُل أهْل الابْتِدَاع في الغَالِب، مُنَبِّهًا على مَزالِق أهل الأهواء.

يَكْتَنِف ذَلك أدَب جَمّ، وخُلُق رَفِيع، إذْ أنَّ مَنْ "لَم يَتَأدَّب مَع الأئمة في الْخِطَاب، أوْ فَجَّج العِبَارَة، وسَبَّ وجَدَّع، يَكُون جَزاؤه مِنْ جِنْس فِعْلِه" (٢).

فإن لَم يَكُنْ ذلك كَذلِك، فإنَّ قَوْلَ العَالِم مَطْرُوح، وعِلْمه مُبْتَذَل، لا يُكْتَب له القَبُول، ولا يَسْعَد بِالنَّجَاح.

ومِن هُنا - والله أعْلَم - وُضِع القَبُول لِتفسِير القرطبي، فأقْبَل عليه العُلَمَاء يَنْهَلُون مِنْ عِلْمِه، ويَعْجَبُون مِنْ أدَبِه، ويُشِيدُون بإنْصافِه، ويُثنُون على تَوَاضُعِه.

فالقرطبي أفَاد مِمَّنْ سَبَقُوه، وأفَاد مِنه كَثير مِمَّنْ أتَى بَعْدَه.

وهذا هو مِحْوَر البَحْث في هذا الفَصْل، وفي هَذا الفَصْل ثَلاثة مَبَاحِث:


(١) مقتبس - بتصرف - من "نفح الطيب"، مرجع سابق (٦/ ٥٧).
(٢) مقتبس - بتصرف - من "سير أعلام النبلاء"، مرجع سابق (١٨/ ١٨٦).

<<  <   >  >>