للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْمَلائكَة بِمَا بَشَّرَتْه بِه عَنْ أمْر الله إيَّاها بِه؟ أشَكّ في صِدْقِهِم؛ فَذَلك مَا لا يَجُوز أن يُوصَف بِه أهْل الإيمان بالله، فَكَيف الأنْبِيَاء والْمُرْسَلُون؟ أمْ كَان ذَلك مِنه اسْتِنْكَارًا لِقُدْرَة رَبِّه؛ فَذَلك أعْظَم في البَلِيَّة؟

قِيل: كَان ذَلك مِنه صَلى الله عليه وسلم على غَير مَا ظَنَنْتَ، بَلْ كَان قِيلِه مَا قَال مِنْ ذَلك (١).

ثم رَوى بإسْناده إلى السُّدّي أنه قَال: لَمَّا سَمِع نِدَاء الْمَلائكَة بالبِشَارَة بِيَحْيَى جَاءَه الشَّيْطَان، فَقَال لَه: يَا زَكَرِيّا إنَّ الصَّوت الذي سَمِعْت لَيْس هو مِنْ الله، إنّما هُو مِنْ الشَّيْطَان يَسْخَرُ بِك، ولَو كَان مِنْ الله أوْحَاه كَمَا يُوحِي إلَيك في غَيْرِه مِنْ الأمْر، فَشَكّ مَكَانَه، وقَال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ذَكَر، يَقُول: ومِن أين: (وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)؟

ورَوَى بإسْنَادِه إلى عِكْرِمَة أنّه قَال: فَأتَاه الشَّيْطَان فأرَاد أن يُكَدِّر عَليه نِعْمَة رَبِّه، فَقَال: هَلْ تَدْرِي مَنْ نَادَاك؟ قَال: نَعَم، نَادَتْنِي مَلائكَة رَبِّي. قَال: بَلْ ذَلك الشَّيْطَان لَو كَان هذا من ربك لأخْفَاه إلَيك كَمَا أخْفَيتَ نِدَاءك. فَقَال: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) [آل عمران: ٤١]، [مريم: ١٠].

فَكَان قَوله مَا قَال مِنْ ذَلك، ومُرَاجَعَته رَبِّه فِيمَا رَاجَع فِيه بِقَولِه: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) للوَسْوَسَة التي خَالَطَتْ قَلْبَه مِنْ الشَّيْطَان حَتَّى خَيَّلَتْ إلَيه أنَّ النِّدَاء الذي سَمِعَه كَان نِدَاء مِنْ غَير الْمَلائكَة، فَقَال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) مُسْتَثْبِتًا في أمْرِه لِيَتَقَرَّرَ عِنْدَه بآيَةٍ يُرِيه الله في ذَلك أنّه بِشَارَة مِنْ الله عَلى ألْسُن مَلائكَته، ولِذَلك قَال: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).

وقَد يَجُوز أن يَكُون قِيلُه ذَلك مَسْألة مِنْه رَبَّه، مِنْ أيّ وَجْه يَكُون الوَلَد الذي بُشّرَ بِه، أمِن زَوْجَتِه؟ فَهي عَاقِر، أمْ مِنْ غَيْرِها مِنْ النِّسَاء؟ فَيَكُون ذَلك عَلى غَيْر الوَجْه الذي قَاله عِكْرِمة والسُّدّي، ومَن قَال مِثْل قَوْلهما (٢).


(١) أي أنَّ قَول زَكريا عليه السلام لم يَكن مِنْ هَذا القَبيل، وإنما مِنْ قَبِيل مَا سَيَرْويه عقبه.
(٢) جامع البيان، مرجع سابق (٥/ ٣٨٢، ٣٨٣).

<<  <   >  >>