للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السَّادِس: نُقِل أنَّ زَكَريا عليه السَّلام جَاءه الشَّيْطَان عِنْد سَمَاع البِشَارَة، فَقَال: إنَّ هَذا الصَّوْت مِنْ الشَّيْطَان، وقَد سَخِر مِنْك، فَاشْتَبَه الأمْر عَلَى زَكَرِيّا عَليه السَّلام فَقَال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ)، وكَان مَقْصُوده مِنْ هَذا الكَلام أن يُرِيه الله تَعالى آيةً تدُلّ عَلى أنَّ ذَلك الكَلام مِنْ الوَحْي والْمَلائكَة لا مِنْ إلْقَاء الشَّيْطَان.

قال القاضي: لا يَجُوز أن يَشْتَبِه كَلام الْمَلائكَة بِكَلام الشَّيْطَان عِنْد الوَحْي (١) عَلى الأنْبِيَاء عَليهم الصَّلاة والسَّلام، إذْ لَو جَوَّزْنا ذَلك لارْتَفَع الوُثُوق عَنْ كُلّ الشَّرَائع ويُمْكِن أن يُقَال: لَمَّا قَامَت الْمُعْجِزَات عَلى صِدْق الوَحْي في كُلّ مَا يَتَعَلَّق بالدِّين لا جَرَم حَصَل الوُثُوق هُنَاك بِأنَّ الوَحْي مِنْ اللهِ تَعالى بِوَاسِطَة الْمَلائكَة، ولا مَدْخَل للشَّيْطَان فِيه، أمَّا مَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِح الدُّنْيا وبِالوَلَد (٢) فَرُبَّمَا لَم يَتَأكَّد ذَلك الْمُعْجِز فَلا جَرم بَقِي احْتِمَال كَوْن ذَلك مِنْ الشَّيْطَان، فَلا جَرَم رَجَع إلى اللهِ تَعالى في أن يُزِيل عَنْ خَاطِرِه ذَلك الاحْتِمَال (٣).

ويَرَى ابنُ جُزَيّ أن الاسْتِفْهَام في قَولِه: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) تَعجُّبٌ واسْتِبْعَاد أن يَكُون لَه وَلَد مَع شَيْخُوخَتِه وعِقَم امْرَأته. ويُقَال: كَان لَه تِسْع وتِسْعُون سَنَة، ولامْرَأته ثَمَان وتِسْعُون سَنَة؛ فاسْتَبْعَد ذَلك في العَادة، مَع عِلْمِه بِقُدْرَة الله تَعالى عَلى ذَلك، فَسَألَه مع عِلْمِه بِقُدْرَة الله واسْتَبْعَدَه لأنَّه نَادِر في العَادَة، وقِيل: سَأله وهو شَاب، وأُجِيب وهو شَيخ، ولِذَلك اسْتَبْعَده (٤).


(١) هذا لو كان وحيًا يجب تبليغه، أما هذا فليس من الوحي المبلغ.
(٢) وهنا حصل لزكريا عليه السلام - إن صَحّ - فهو من هذا الباب، وللشيطان مدخل على الأماني، يُبيِّن هذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج: ٥٢] ولفظ الآية على العموم في الأنبياء والرسل. وذكر ابن جرير أكثر من معنى لـ (أمنيته)، فلتنظر.
(٣) التفسير الكبير، مرجع سابق (٨/ ٣٤، ٣٥) باختصار.
(٤) التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (١/ ١٠٦)، (٣/ ٢، ٣).

<<  <   >  >>