للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قِيل له: لَمَّا نَفَذَ له في آدَم مَا نَفَذ (١) غَلَب على ظَنِّه أنه يَنْفُذ له مِثْل ذلك في ذُرِّيَّتِه، وقَد وَقَع له تَحْقِيق مَا ظَنّ (٢).

وجَواب آخَر - وهو مَا أُجِيب مِنْ قَوله تَعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء: ٦٤]، فأُعْطِي القُوَّة والاسْتِطَاعَة، فَظَنّ أنه يَمْلِكُهم كُلّهم بِذلك، فَلَمَّا رَأى أنه تَاب على آدَم، وأنه سَيكُون له نَسْل يَتْبَعُونَه إلى الْجَنَّة، وقال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) عَلِم أنَّ له تَبَعًا، ولآدم تَبَعًا، فَظَنّ أنَّ تَبَعه أكْثَر مِنْ تَبع آدَم لِمَا وُضِع في يَدَيه مِنْ سُلْطَان الشَّهَوَات، ووُضِعَتِ الشَّهوات في أجْوَاف الآدمِيِّين، فَخَرج على ما ظَنّ حَيث نَفَخ فيهم وزَيَّن في أعْيُنِهم تِلك الشَّهَوات، ومَدَّهم إليها بالأمَاني والْخَدَائع؛ فَصَدَّق عَليهم الظَّنّ الذي ظَنَّه، والله أعلم.

وقال: قَوله تَعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: لم يَقْهَرْهم إبْلِيس على الكُفْر، وإنّمَا كَان مِنه الدُّعَاء والتزْيِين، والسُّلْطَان: القُوَّة. وقِيل: الْحُجَّة، أي: لَم تَكُنْ لَه حُجَّة يَسْتَتْبِعُهم بِهَا، وإنّمَا اتَّبَعُوه بِشَهْوة وتَقْلِيد، وهَوى نَفْس، لا عَنْ حُجَّة ودَلِيل.


(١) أي تحقق له ما أراد من إغوائه (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: ١٢١].
(٢) وجواب آخر، وهو رؤية إبليس لخلق آدم وامتحانه لذلك. ففي صحيح مسلم (ح ٢٦١١) من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك.
قال النووي في المنهاج (١٦/ ١٦٤): قوله صلى الله عليه وسلم: "يُطيف به". قال أهل اللغة: طاف بالشيء يطوف طوفا وطوافًا، وأطاف يطيف: إذا استدار حواليه. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلما رآه أجوف علم أنه خلق خلقًا لا يتمالك".
الأجوف صاحب الجوف. وقيل: هو الذي داخله خالٍ. ومعنى: "لا يتمالك": لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات. وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه. وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب. والمراد جنس بني آدم.

<<  <   >  >>