للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمَّا مَا تَعَقَّب بِه القرطبي قَول مَنْ قَال: "كَانت الرُّسُل قَبْل أن يُبْعَث محمد صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُون إلى الإنْس والْجِنّ جَمِيعًا" بِمَا في الْحَدِيث مِنْ عُمُوم بِعْثَتِه صلى الله عليه وسلم وخُصُوص دعْوة كُلّ نَبِيّ لِقَوْمِه.

فهذا مُتعقّب بأنَّ مِنْ الْجِنّ مَنْ آمَنَ بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام، كما في آيَات "الأحْقاف"، وقد قال القرطبي في تَفْسير آيَة "الأحقاف": وكَانُوا مُؤمِنين بِمُوسَى (١) ويَلْزَم مِنْ نَفْي ذلك أحَد أمْرَين:

إمَّا أنَّ الْجِنّ لم تُكلّف، ولم يُرْسِل الله لها رُسُلًا.

وإمَّا أنَّ الله أرْسَل إليهم رُسُلًا مِنْ أنفُسِهم.

وكِلا القَولَين لا يَعْضُدُه الدَّلِيل، فالأوَّل يَلزَم مِنه ألا تُعَذَّب الْجِنّ؛ لأنَّ الله لا يُعُذِّب حتى يَبْعَث رَسُولا، ثم هو بِخِلاف آيَة "الأنْعام" (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، والثاني يَسْتَلْزِم ثُبُوت رُسُل مِنْ الْجِنّ، وهو مَا نَفَاه القرطبي، ونَفَاه جَمْع مِنْ العُلَمَاء (٢).

وأمَّا مَا اخْتُصّ به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمُوم بِعْثَتِه فَلا يُعَارِضه إيمان الْجِنّ بِمُوسَى وبِالأنبِيَاء مِنْ قَبْل، وذلك أنَّ بِعْثَتَه صلى الله عليه وسلم إلى النَّاس كَافَّة، إلى قَومِه وإلى غَيرهم، بَيْنَما كان النبي يُبعَث إلى قَومِه خَاصَّة، ولا يَمنَع ذلك مِنْ دُخول الْجِنّ مِنْ أهْل ذلك الزَّمَان أوْ الْمَكَان في دَعْوة نَبِيٍّ مِنْ الأنْبِيَاء، كَمَا جَاء التَّصْرِيح بِه في آيَة "الأحقاف"؛ مِنْ أنَّ الْجِنّ آمَنُوا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم. كَمَا أنَّ عُمُوم بِعْثَتِه صلى الله عليه وسلم تَشْمَل عُمُوم الزَّمَان والْمَكَان، بِخِلاف دَعوَات الأنبياء مِنْ قبْلِه. وجَوَاب آخَر، وهو الاقْتِصَار على مَا وَرَد مِنْ إيمانهم بِمُوسَى وبِمُحَمد صلى الله عليهما وسلم - ولذلك ذَكَرَتهما الْجِنّ - والسُّكُوت عَمَّا عَدَا ذلك.

والله تعالى أعلم.


(١) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (١٦/ ١٨٥).
(٢) يُنظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، مرجع سابق (٤/ ٢٣٤ وما بعدها).

<<  <   >  >>