للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمَّا مَا اسْتَدَلّ به نُفَاة الرُّؤيَة مِنْ قَولِه تَعالى لِمُوسَى: (لَنْ تَرَانِي)، فَذلك مُخْتَصّ بِالدُّنيا، إذ لَم يُخْلَق الْخَلْق فِيها للبَقَاء، ويَدُلّ عليه قَوله عليه الصلاة والسلام: لَنْ يَرَى أحَدُكُم رَبَّه حَتى يَمُوت (١).

وجَوَاب آخَر، وهو أنَّ "قَوْله تَعَالى: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) الآية، لَيس بِجَوَاب مَنْ سَأل مُحَالًا، وقد قَال تَعَالى لِنُوح: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: ٤٦]، فلو سَأل مُوسَى مُحَالًا لَكَان في الكَلام زَجْرٌ مَا وتَبْيِين.

وقَولُه عَزَّ وَجَلّ: (لَنْ تَرَانِي) نَصّ مِنْ الله تَعالى على مَنْعِه الرُّؤيَة في الدُّنيا، و (لن) تَنْفِي الفِعْل الْمُسْتَقْبَل، ولو بَقِينَا مع هذا النَّفْي بِمُجَرَّدِه لَقَضَينَا أنه لا يَرَاه مُوسَى أبَدًا ولا في الآخِرَة، لكن وَرَد مِنْ جِهَة أخْرَى بِالْحَدِيث الْمُتَوَاتِر أنَّ أهْل الإيمان يَرَون الله تَعَالى يَوْم القِيَامَة، فَمُوسَى عليه السلام أحْرَى بِرُؤيَتِه" (٢).

وكان مِنْ سُؤَال النبي صلى الله عليه وسلم ودُعَائه: وأسْألُك لَذّة النَّظَرِ إلى وَجْهِك (٣).

قال ابن عبد البر: والآثَار في هَذا الْمَعْنَى كَثِيرَة جِدًّا (٤).

وجَوَاب أخِير، وهو "إنَّ النَّظَر لَه عِدَّة اسْتِعْمَالات بِحَسَب صِلاته وتَعَدِّيه بِنَفْسِه، فإن عُدِّي بِنَفْسِه، فَمَعْنَاه التَّوَقُّف والانْتِظَار، (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد: ١٣]، وإن عُدِّي بِـ (في)، فَمَعْنَاه التَّفَكُّر والاعْتِبَار، كَقَوْلِه: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: ١٨٥]، وإن عُدِّي بـ (إلى)، فَمَعْنَاه الْمُعَايَنَة بِالأبْصَار، كَقَوْلِه


(١) رواه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" (ح ٤٣٠)، وقال الألباني: إسناده صحيح.
(٢) "المحرر الوجيز"، مرجع سابق (٢/ ٤٥٠).
(٣) رواه أحمد (ح ١٨٣٥١)، والنسائي (ح ١٣٠٥).
(٤) التمهيد، مرجع سابق (٧/ ١٥٧).

<<  <   >  >>