للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك لا يَقْتَضِي الْعِصْمَة، ولا أنَّ لا يَقَع العَبْد في الذَّنْب، وإنما يَعْنِي أن يَخَاف الله فلا يُصِرّ على ذَنْب، وأن يَشْكُر الله فَلا يَكْفره.

قال ابن جرير: يَعْنِي بِذلك جلّ ثناؤه: يا مَعْشَر مَنْ صَدَّق اللهَ ورَسوله (اتَّقُوا اللَّهَ) [آل عمران: ١٠٢]: خَافُوا الله ورَاقِبُوه بِطَاعَتِه واجْتِنَاب مَعَاصيه. (حَقَّ تُقَاتِهِ): حَقَّ خَوْفه، وهو أن يُطَاع فلا يُعْصَى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر، ويُذْكَر فلا يُنْسَى (١).

وقال ابن الجوزي: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ذَهَب كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِين إلى أنها نُسِخَتْ بِقَولِه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) والصَّحِيح أنها مُحْكَمة، وأنَّ (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بَيَان لِـ (حَقَّ تُقَاتِهِ)، فإنَّ القَوْم ظَنُّوا أن (حَقَّ تُقَاتِهِ) مَا لا يُطَاق، فَزَال الإشْكَال. ولَو قَال: لا تَتَّقُوه حقّ تُقَاتِه؛ كان نَسْخًا (٢).

الوَجْه الثَّاني: أنَّ آية "التغابن" (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لا تُعَارِض آية "آل عمران" (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، وذَلك لأنَّ آيَة "التغابن" جَاءت بَعْد ذِكْر الأهْل والْمَال والوَلَد، والإخْبَار بِأنَّ الْمَال والوَلَد فِتْنَة، ولِمَا جُبِلتْ عليه النَّفُوس مِنْ حُب الْمَال والوَلَد، جَاء الأمْر بِتَقْوَى الله حَسب الاسْتِطَاعَة.

وبَيَان ذَلك: أنَّ الإنْسَان قَدْ يَشْغله الْمَال أوْ الوَلَد عَنْ طَاعَة الله، فإذا كَان ذلك فَلْيَتَّق الله مَا اسْتَطَاع، وذَلك بأن يُسَدِّد ويُقَارِب.

فَفِي سِيَاق آيَات "التغابن" قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، ثم قَال جَلّ ذِكْرُه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).


(١) جامع البيان، مرجع سابق (٥/ ٦٣٧).
(٢) المصفّى بأكفّ أهل الرسوخ، مرجع سابق (ص ٢٢، ٢٣).

<<  <   >  >>