كان فراره الى ميلة، حيث درس على الشيخ محمد الميلي ابن معنصر جدي لأمي، وكان أثمن ما تعلمه عليه هو خشية الله والزهد في المدنيا. فقد كان الشيخ الميلي معروفا بالزهد. كان يعطي من ماله بغير حساب. ذلك ما كنت اسمع عنه منذ صغري. وتروى عنه روايات كثيرة في هذا المجال. منها ان سائلا تقدم منه ذات يوم، وقد كان عائدا من المسجد الى منزله، وصادف انه لم يكن لديه ما يعطيه له، فقال له انتظرني. ثم دخل الى سقيفة المنزل، ونزع صدريته، وكانت فاخرة واعطاها له، متأكدا انه سوف يبيعها بأكثر من ثمنها الحقيقي، فهناك اكثر من شخص يرغب ولا شك في شراء صدرية الشيخ تبركا.
ويروي عنه انه، وقد عرف انه ميت لا محالة بعد طعنة سكين طعنها به مواطن بحجة انه رفض ان يفتيه بما يوافق هواه، سامح من اراد قتله وطلب من ابنائه قبل ان يسلم الروح، ان لا يتتبعوا القاتل قضائيا. لست أشك في ان بعضا من هذه الروح قد ورثها الشيخ مبارك عبر سلوك شيخه اكثر مما ورثها عبر دروسه.
لكن التأثير الحاسم الذي تلقاه مؤلف تاريخ الجزائر، كان هو ذلك الذي تلقاه على الشيخ ابن باديس.
فقد نصحه الشيخ محمد الميلي ان يتردد على ابن باديس مؤكدا له انه سوف يستفيد بذلك اضعاف مما لو بقي في ميلة.
وفعلا فقد كان لقاء مبارك الميلي مع ابن باديس يمثل نقطة تحول هامة في حياة الشيخ مبارك: فقد أخذ عنه روح النقد، وعزز لديه الجرأة على التمرد على الاوضاع.
وعلى الرغم من انه لم يتح لي ان اعرف من أبي الكثير عن هذه العلاقة فقد أتيح لي ان أشهد ما يدل على عمقها. حدث ذلك بمناسبة موت الشيخ عبد الحميد.
اتصل أبي بمكالمة تليفونية من قسنطينة مفادها ان الشيخ مريض. أبدى تعجبه لانه كان وشيك العودة من هناك وتركه صحيحا. فهرع مسرعا. ولم يكد يصل الى قسنطينة حتى وجده قد اسلم روحه.