ويروى معه "وآكِلٍ غير حامد" يقال: إن أول من قاله النابغة الذبياني، وكان وفَدَ إلى النعمان بن المنذر وفودٌ من العرب فيهم رجل من بني عَبْس يقال له شقيق، فمات عنده، فلما حبا النعمانُ الوفودَ بعث إلى أهل شقيق بمثل حِباء الوَفْد، ⦗٣٠٠⦘ فقال النابغة حين بلغهُ ذلك: ربَّ ساعٍ لقاعد، وقال للنعمان:
أبقيْتَ للعَبْسِيِّ فَضْلاً ونعْمَةً ... ومَحْمَدَةً من باقيات المَحَامِدِ
ويروى "لسْلَمِى أمَّ خالد، رب ساع لقاعد" قالوا: إن أول مَنْ قال ذلك معاوية ابن أبي سفيان، وذلك أنه لما أخَذَ من الناس البيعةَ ليزيد ابنهِ قال له: يا بني، قد صيرتك وليَّ عهدي بعدي، وأعطيتك ما تمنيت، فهل بقيَتْ لك حاجة أو في نفسك أمر تحب أن أفعله؟ قال يزيد: يا أمير المؤمنين، ما بقيَتْ لي حاجة ولا في نفسي غُصَّة ولا أمرٌ أحبُّ أن أناله إلا أمر واحد، قال: وما ذاك يا بني؟ قال: كنت أحِبُّ أن أتزوج أم خالد امرأةَ عبد الله بن عامر بن كريز، فهي غايتي ومُنْيَتي من الدنيا، فكتب معاوية إلى عبد الله بن عامر فاستقدمه، فلما قدم عليه أكرمه وأنزله أياماً، ثم خلا به فأخبره بحال يزيد ومكانه منه وإيثاره هَوَاه. وسأله طلاقَ أم خالد على أن يطعمه فارسَ خمسَ سنين، فأجابه إلى ذلك، وكتب عهده، وخَلَّى عبدُ الله سبيلَ أم خالد، فكتب معاوية إلى الوليد ابن عُتْبَة وهو عامل المدينة أن يعلم أم خالد أن عبد الله قد طَلَّقها لتعتدَّ، فلما انقضَتْ عدتُها دعا معاويةُ أبا هريرة فدفع إليه ستين ألفاً، وقال له: ارْحَلْ إلى المدينة حتى تأتيَ أمَّ خالد فتخطبها على يزيد، وتعلمها أنه وليُّ عهد المسلمين، وأنه سَخِيٌّ كريم، وأن مهرها عشرون ألف دينار، وكرامتها عشرون ألف دينار، وهديتها عشرون ألف دينار، فقدم أبو هريرة المدينةَ ليلا، فلما أصبح أتى قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه الحسنُ بن علي، فسلم عليه وسأله: مَتَى قدمت؟ قال: قدمتُ البارحةَ، قال: وما أقْدَمَك؟ فقصَّ عليه القصة، فقال له الحسن: فاذْكُرْنِي لها، قال: نعم، ثم مضى، فلقيه الحسينُ بن علي وعبيدُ الله بن العباس رضي الله تعالى عنهم، فسألاه عن مَقْدَمه فقصَّ عليهما القصة، فقالا له: اذكرنا لها، قال: نعم، ثم مضى فلقيه عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب وعبدُ الله ابن الزبير وعبد الله بن مُطيع بن الأسود، فسألوه عن مَقْدَمه فقصَّ عليهم القصة، فقالوا: اذكرنا لها، قال: نعم، ثم أقبل حتى دخل عليها، فكلَّمها بما أمر به معاويةُ، ثم قال ⦗٣٠١⦘ لها: إن الحسَنَ والحسين ابني علي وعبدَ الله ابن جعفر وعبيدَ الله بن العباس وابنَ الزبير وابنَ مطيع سألوني أن أذكرهم لك، قال: أما هَمِّي فالخروج إلى بيت الله والمجاورة له حتى أموت أو تشير علي بغير ذلك، قال أبو هريرة: أمّا أنا فلا أختار لك هذا، قالت: فاختر لي، قال: اختاري لنفسك، قالت: لا، بل اخْتَرْ أنت لي، قال لها: أما أنا فقد اخْتَرْتُ لك سيدَيْ شبابِ أهل الجنة، فقالت: قد رضيتُ بالحسن بن علي، فخرج إليه أبو هريرة فأخبر الحسنَ بذلك وزوَّجَها منه، وانصرف إلى معاوية بالمال، وقد كان بلغ معاوية قصته، فلما دخل عليه قال له: إنما بَعَثْتُك خاطباً ولم أبعثك محتسباً، قال أبو هريرة: إنها استشارتني والمستشار مؤتمن، فقال معاوية عند ذلك: اسْلَمِي أم خالد، رب ساع لقاعد، وآكل غير حامد، فذهبت مثلا.