٥٦٨- أَبْخَلُ مِنْ مادِرٍ.
هو رجل من بني هِلال بن عامر بن صَعْصَعة، وبلغ من بُخْله أنه سقي إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل، فسَلَح فيه ومَدَر الحوضَ به، فسمى مادراً لذلك، واسمه مُخَارق. ⦗١١٢⦘
قال أبو الندى: وذكروا أن بني فَزَارة وبني هِلال بن عامر تنافروا إلى أنَسِ بن مُدْرك الْخَثْعَمِيّ، وتراضَوْا به، فقالت بنو عامر: يا بني فَزَارة أأكَلْتُم أيْرَ حمار، فقالت بنو فزارة: قد أكَلْنَاه ولم نَعْرفه، وحديث ذلك أن ثلاثة نفر اصْطَحَبُوا فَزارِي وثَعْلَبيّ وكِلابيّ، فصادُوا حمارا، ومضى الفَزَاريّ في بعض حاجته، فطَبَخَا وأكَلاَ، وخَبَآ للفزاريّ جُرْدَانَ الحمار (جردان الحمار وجوفانه - بضم جيمهما - قضيبه) فلما رَجَع الفزاري قالا: قد خَبَأنا لك، فكُلْ فأقبل يأكله ولا يكاد يُسِيغه، فقال: أكُلُّ شِوَاء العَيْر جُوفَان (جردان الحمار وجوفانه - بضم جيمهما - قضيبه) يعني به الذَّكَر، وجَعَلا يضحكان، ففطن وأخَذَ السيف وقال: لتأكلانِّهِ أو لأقتلنكما، ثم قال لأحدهما وكان اسمه مَرْقمة: كُلْ منه، فأبى فضربه فأبَانَ رأسَه، فقال الآخر: طاح مَرْقَمة، فقال الفزاري: وأنت إن لم تَلْقَمه، قال محمد بن حبيب: أراد إن لم تَلْقَمهَا، فلما ترك الألفَ ألقى الفتحة على الميم قبل الهاء، كما قالوا وَيْلُم الحيرة وأي رجال بَهْ: أي بِهَا. قلت: إنما قَدَّر الهاء في تَلْقَمها إرادة المضغة أو البضعة، وإلا فليس في الكلام الذي مضى تأنيث ترجع الهاء إليه، فقالت بنو فزارة: ولكن منكم يا بني هلال مَنْ قَرَى (قرى - جمع) في حوضه فسَقَى إبله فلما رَوِيَتْ سلَح فيه ومَدَره بخلاً به أن يُشْرَب فضلُه، فقضى أنسُ بن مُدْرِك على الهلاليين، فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير، وكانوا تراهَنُوا عليها.
وفي بني فَزَارة يقول الكُمَيْت بن ثَعْلبة، والكميتُ من الشعراء ثلاثة: أقدمهم هذا، ثم كميت بن معروف، ثم كميت ابن زيد، وكلمهم من بني أسد:
نَشَدْتُكَ يا فَزَارَ وأنت شَيْخٌ ... إذا خُيِّرْتَ تخطئ في الخِيار
أَصَيْحَانية أُدِمَتْ بسمن ... أَحَبُّ إليك أم أَيْرُ الحِمار
بلى أَيْرُ الحمار وخُصْيَتَاه ... أَحَبُّ إلى فَزَارة من فَزَارِ
فحذف الهاء من فزارة كما تحذف في الترخيم، وإن كان هذا في غير النداء، ويجوز أن يكون أراد "من فزاريٍّ" فخفف ياء النسبة.
وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جَلِّلَتْ خِزْياً هلالُ بنُ عامرٍ ... بَنِي عامرٍ طُرَّا بسَلْحَة مادر
فأفٍّ لكم لا تَذْكُرُوا الفَخْرَ بعدها ... بني عامر أنْتُمْ شِرَارُ المَعَاشِرِ
وفي بني فزارة يقول ابنُ دَارَةَ:
لا تأمنَنَّ فزاريَّا خَلَوْتَ به ... على قَلُوصِك واكْتُبْهَا بأسْيَارِ ⦗١١٣⦘
لا تأمَنَنْهُ وَلاَ تَأْمَنْ بَوَائِقَهُ ... بَعْدَ الذي امْتَلَّ أيْرَ العَيْرِ في النار
أطْعَمْتُمُ الضيفَ جُوفَاناً مُخَاتَلَةً ... فلا سَقَاكُمْ إِلهِي الخالِقُ البارِي
قال حمزة: وحدثني أبو بكر بن دُرَيد قال: حدثني أبو حاتم عن أبي عُبَيدة أنه قرأ عليه حديثَ مادر فضحك، قال: فقلت له: ما الذي أضحكك؟ فقال: تعجبني من تسيير العرب لأمثالٍ لها لو سَيَّرُوا ما هو أهَمُّ منها لكان أبلغ لها، قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل مادر هذا جعلوه علما في البخل بفَعْلَةٍ تحتمل التأويل، وتركوا مثل ابن الزُّبَير مع ما يُؤْثر على لفظه وفعله من دقائق البُخْل فتركوه كالغُفْل: من ذلك أنه نظر إلى رجل من أصحابه وهو يومئذ خليفة يقاتل الحجاج ابن يوسف على دَوْلته وقد دَقََّ الرجل في صُدُور أهل الشأم ثلاثة أرماح، فقال له: يا هذا اعْتَزِلْ عن حربنا فإن بيت المال لا يقوى على هذا. وقال في تلك الحرب لجماعة من جُنْده: أكلتم تَمْرِي وعَصَيْتم أمري، وسمع أن مالك بن أشعر الرزاميَّ من بني مازن أكَلَ من بعير وَحْده وحمل ما بقي على ظهره فقال: دُلُّونِي على قبره أنبشه، وقال لرجل أتاه مُجْتَدِيا وقد أُبْدِعَ به، فشكا إليه حَفَى ناقته، قال: اخْصِفْهَا بهلب، وارْقَعْهَا بسبت، وأنجِدْبها يَبْرُدْ خفها، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين جئتك مُسْتَوْصلا، ولم آتك مُسْتَوْصِفا، فلا بَقِيَتْ ناقة حملتني إليك، فقال: إنَّ وصاحِبَهَا، ولهذا الرجل فيه شعر قد نسى.
قلت: وفي بعض النسخ من كتاب أفعل: كان هذا الرجل عبد الله بن فَضَالة (المحفوظ أن اسم هذا الشاعر عبد الله ابن الزبير - بفتح الزاي وكسر الباء - الأسدي) الأسدي، ولما انصرف من عنده قال:
أرَى الحاجاتِ عِندَ أبي خُبَيْب ... نَكِدْنَ، ولا أمَيَّةَ بالبِلاَدِ
وَمَالِي حينَ أقْطَعُ ذاتَ عِرْقٍ ... إلَى ابْنِ الكَاهِلِيَّةِ من مَعَادِ
في أبيات. وابن الكاهلية: هو عبد الله بن الزُّبَيْر، كانت جدة من جداته من بني كَاهِل، فلما بلغ الشعرُ ابنَ الزُّبَير قال: لو علم لي أما ألأَم من عمته لسبَّني بها قال أبو عبيدة: فلو تكلف الحارث بن كَلَدة طبيبُ العرب أو مالك بن زيد مناة وحُنَيْف الْحَنَاتم آبلاَ العربِ من وصف علاج ناقة الأعرابي ما تكلَّفه هذا الخليفةُ لما كانوا يَعْشُرُونه، وكان مع هذا يأكل في كل أسبوع أكلة، ويقول في خطبته: إنما بطني شِبْر في شِبْر، وعندي ما عسى يكفيني، فقال فيه الشاعر: ⦗١١٤⦘
لو كان بَطْنُكَ شِبْرا قد شَبِعْتَ، وقد ... أفْضَلْتَ فَضْلا كثيرا للمساكين
فإنْ تُصِبْكَ من الأيام جائحةٌ ... لا نَبْكِ منك على دُنْيَا ولا دِينِ