العَيُّ - بالكسر - المصدرُ، والعَيُّ - بالفتح - الفاعلُ، يعني عِيٌّ مَعَ صَمْت خير من عيٌّ مع نطق، وهذا كما يُقَال: السكوتُ ستر ممدود على العي، وفِدَامٌ (الفدام - بوزن سحاب أو كتاب - المصفاة تجعل على فم الإبريق ليصفى ما فيه) على الفَدَامة، وينشد:
قَال ابن عَوْن: كنا جلوساً عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قَال: فجعل يتكلم وعنده رجل من أهل البادية، فَقَال له ربيعة: ما تَعُدُّن البلاغَةَ فيكم؟ قَال: الإيجاز في الصواب، قَال: فما تَعُدُونَ العِيَّ فيكم؟ قَال: ما كنت فيه منذ اليوم. ⦗٢٦⦘
حدث المنذرى عن الأَصمَعي قَال: حدثني شيخٌ من أهل العلم قَال: شهدت
الجمعة بالضرية وأميرها رجل من الأعراب، فخرج وخطب ولفَّ على أسه وبيده قَوسٌ فَقَال: الحمد للَّه رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، أما بعد فإن الدنيا دار بلاء، والآخَرة دار قَرار، فخذوا من ممركم لمَقَرِّكم، ولا تَهْتِكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، واخرُجُوا من الدنيا إلى ربكم قبل أن يخرج منها أبدانكم، ففيها جئتم، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والمدعو له الخليفة والأمير جعفر، قومُوا إلى صلاتكم.
قلت: ومثل هذا في الوَجَازة والفصاحة كلام أبي جعفر المنصور حين خطب بعد إيقاعه بأبي مُسْلم فَقَال: أيها الناس، لا تخْرُجُوا من أنس الطاعة إلى وَحْشَة المعصية، ولا تُسِرُّوا غشَّ الأئمة فإنه لا يُسِرُّه أحد إلا ظهر في فَلَتات لسانه وصَفَحات وجهه، إنه مَنْ نازعَنَا عُرْوَة هذا القَميص أو طأناه خَبْءَ (الخبء - بالفتح - ما خبيء وغاب، وخبء الغمد: هو السيف) هذا الغمد، وإنَّ أبا مُسْلم بايَعَنا وبايَعَ لنا على أنه من نكَثَ عهداً فقد أبا حَنَا دَمَه، ثم نكث علينا فحكَمْنَا عليه لأنفسنا حكمَهُ على غيره لنا، لا تمنعنا رعايةُ الحقَ له من إقامة الحقَ عليه.