هذا مثل من أمثال أهل المدينة سار في صدر الإسلام، والمتمنية: امرأة مَدَنية ⦗٤١٥⦘ عَشِقت فتىً من بني سُلَيم يقال له: نَصْر بن حَجَّاج، وكان أحْسَنَ أهل زمانه صُورة، فَضَنِيَتْ من حبه، ودَنِفَتْ من الوَجْدِ به، ثم لَهِجَتْ بذكره، حتى صار ذكره هِجِّيرَاهَا، فمرَّ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة بباب دارها، فسمعها تقول رافعةً عَقِيرَتهَا:
ألا سَبيلَ إلى خَمْرٍ فأشْرَبَهَا ... أم لاَ سَبِيلَ إلى نَصْر بن حَجَّاجِ
فقال عمر رضي الله عنه: مَنْ هذه المتمنية؟ فعرف خَبَرَها، فلما أصبح استحضر الفتى المتمنَّى، فلما رآه بَهَرَه جمالُه، فقال له: أأنت الذي تتمناكَ الغانياتُ في خدورهن؟ لا أمُّ لك! أما والله لأزيلَنَّ عنك رِدَاء الجمال، ثم دعا بحجَّام فحَلَقَ جُمَّته، ثم تأمَّله فقال له: أنت مَحْلُوقاً أَحْسَنُ، فقال: وأيُّ ذنب لي في ذلك؟ فقال: صدقت، الذنْبُ لي أَنْ تركتُكَ في دار الهجرة، ثم أركَبَهُ جملا وسَيَّره إلى البَصْرة، وكتب إلى مُجَاشع ابن مسعود السُّلَمي: إني قد سَيَّرْتُ المتمنَّي نصرَ بن حجَّاج السُّلمي إلى البصرة، فاسْتَلَبَ نساءُ المدينة لفظةَ عمر، فضر بْنَ بها المثل، وقلن "أصَبُّ من المتمنية" فسارت مثلا.
قال حمزة: وزْعم النسابون أن المتمنية كانت الفريعة بنت هَمَّام أم الحجاج بن يوسف، وكانت حين عَشِقَتْ نصراً تحت المُغِيرة بن شُعْبة، واحتجوا في ذلك بحديث رَوَوْه، زعموا أن الحجاج حضَرَ مجلس عبد الملك يوماً وعُرْوَة بن الزبير عنده يحدثه ويقول: قال أبو بكر كذا، وسمعت أبا بكر يقول كذا، يعني أخاه عَبْدَ الله بن الزبير، فقال له الحجاج: أعند أمير المؤمنين تَكْنَي أخاك المنافق؟ لا أم لك! فقال له عروة: يا ابن المتمنية ألي تقول هذا؟ لا أم لك وأنا ابن عجائز الجَنَّة صفِيَّة وخَدِيجة وأسماء وعائشة رضي الله عنهن.
وكما قالوا بالمدينة "أصب من المتمنية" قالوا بالبصرة "أدْنَفُ من المتمنَّى" وذلك أن نصر بن حجاج لما ورَدَ البصرةَ أخذ الناسُ يسألون عنه، ويقولون: أين هذا المتمني الذي سَيَّرهُ عمر رضي الله عنه؟ فغلب هذا الاسم عليه بالبصرة كما غلب ذلك الاسم على عشيقته بالمدينة.
ومن حديث هذا المثل أن نصراً لما ورد البصرة أنزله مُجَاشع بن مسعود السُّلَمي منزلَه من أجل قَرَابته، وأَخْدَمَه امرأته شُمَيْلة، وكانت أجملَ امرأة بالبصرة، فعلقته وعَلِقها، وخفي على كل واحدٍ منهما خبرُ الآخر، لملازمة مُجَاشع لضَيْفه، وكان مجاشع ⦗٤١٦⦘ أمياً ونَصْر وشُمَيلة كاتبين، فَعِيلَ صبرُ نصر، فكتب على الأرض بحضرة مجاشع: إني قد أحببتك حباً لو كان فَوْقَك لأظَلَّكِ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ، فوقَّعَتْ تحته غير محتشمة: وأنا، فقال لها مجاشع: ما الذي كَتَبه؟ فقالت: كتب كم تَحْلب ناقتكم؟ فقال: وما الذي كتبت تحته؟ فقالت: كتبت وأنا، فقال مجاشع: كم تَحْلب ناقتكم، وأنا، ما هذا لهذا بطبق، فقالت: أصدقك إنه كتب كم تغلُّ أرضكم؟ فقال مجاشع: كم تغل أرضكم، وأنا، ما بين كلامه وجوابك قرابة، ثم كَفَأ على الكتابة جَفْنة ودعا بغلام من الكُتَّاب، فقرأ عليه، فالتفت إلى نَصْر فقال له: يا ابن عم ما سَيَّرَكَ عمر من خيرٍ فقم، فإنَّ وراءك أوسَعَ، فنهض مستحيياً، وعَدَلَ إلى منزل بعض السَّلَمين، ووقع لجنبه، فضَنِىَ من حب شُمَيْلة، ودَنِفَ حتى صار رَحْمَة، وانتشر خبره، فضرب نساء البصرة به المثل، فقلن "أَدْنَفُ من المتمنَّى" ثم إن مجاشعاً وقف على خبر علة نصر بن حجاج، فدخل عليه فلحقته رقَّة، لما رأى به من الدنف، فرجع إلى بيته وقال لشُمَيْلة: عَزَمْتُ عليكِ لما أخذت خُبْزَة فَلَبَكْتِهَا بسمن ثم بادرتِ بها إلى نصر، فبادت بها إليه، فلم يكن به نهوض، فضمته إلى صَدْرها، وجععلت تلقمه بيدها، فعادت قُوَاه وبرأ كأنْ لم يكن به قَلَبة (القلبة - بالتحريك - الداء، والعيب أيضا)
فقال بعض عُوَّاده: قاتل الله الأعشى فكأنه شَهِدَ منهما النجوى حيث قال:
لو أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلى قَابِرِ
فلما فارقته عاود النُّكْس، فلم يزل يتردد في علته حتى مات فيها.