٢٠٤٢- أشأَمُ مِنْ غُرَابِ الْبَيْنِ.
إنما لزِمه هذا الاسم لأن الغراب إذا بان أهلُ الدَّار للنُّجْعة وقَع في موضع بيوتهم يتلمس ويتقمم، فتشاءموا به، وتطيروا منه، إذ كان لا يعترى منازلهم إلا إذا بانوا، فسموه غراب البين، ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزجر والطيرة، وعلموا أنه نافذ البصر صافي العين، حتى قالوا: أصفى من عين الغراب، كما قالوا: أصفى من عين الديك، وسموه "الأعور" كنايةً، كما كنوا طيرةً عن الأعمى فكنوه " أبا بصير" وكما سموا الملدوغ والمنهوس " السليم" وكما قالوا للمَهَالك من الفيافي "المَفَاوز" وهذا كثير، ومن أجل تشاؤمهم بالغراب، اشتقوا من اسمه الغُرْبَة والاغتراب والغَرِيب، وليس في الأرض بَاوِح، ولا نَطِيح، ولا قَعِيد، ولا أَعْضَب، ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغُرَابُ عندهم أنكَدُ منه، ويرون أن صياحه أكثر أخباراً، وأن الزجر فيه أعمُّ، قال عنترة:
خَرق الْجَنَاح، كأنَّ لَحْيَيْ رَأْسِهِ ... جَلمَاَنِ، بالأخْبَارِ هَشٌّ مُولَعُ
وقال غيره:
وصَاحَ غُرَابٌ فَوْقَ أَعْوَادِ بَانَةٍ ... بأَخْبَارِ أَحْبَابِي فقسَّمَنِي الفِكْرُ ⦗٣٨٤⦘
فَقُلْتُ غُرَابٌ باغْتِرابٍ وَبَانَة ... تبينُ النَّوَى، تِلْكَ العِيَافَةُ وَالزَّجْرُ
وَهَبَّتْ جَنُوبٌ باجْتِنَابِيَ مِنْهُمُ ... وَهَاجَتْ صَباً قُلْتُ: الصَّبَابَةُ وَالْهَجْرُ
وقال آخر:
تَغَنَّى الطَّاِئرَان بِبَيْنِ سَلْمَى ... عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ غَرَبٍ وَباَنِ
فكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى ... وَفِي الغَرَب اغْتِرَابٌ غَيرُ دَانِ
وقال آخر:
أقُولُ يَوْمَ تَلاَقَيْنَا وَقَدْ سَجَعَتْ ... حَمَامَتَانِ عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ باَنِ
الآن أعلم أن الْغُصْنَ لِي غَصَصٌ ... وأنما الْبَانُ بَيْنٌ عَاجِلٌ دَانِ
فَقُمْتُ تَخْفِضُنِي أَرْضٌ وَتَرْفَعُنِي ... حَتَّى ونيت وَهَدَّ السَّيْرُ أرْكَانِي
فهذا نَمَطُ شعرهم في الغُرَاب لا يتغير، بل قد يزجرون من الطير غيرَ الغُرَاب على طريقين: أحدهما على طريق الغراب في التشاؤم، والآخر على طريق التفاؤل به،
قال الشاعر:
وقَاُلوا: تَغَنَّى هُدْهُدٌ فوق بَانَةٍ ... فقلْتُ: هُدًى يَغْدُو به ويَرُوحُ
وقال آخر:
وقالوا: عُقَاب، قُلْتُ: عُقْبَى مِنَ النَّوَى
دَنَتْ بَعْدَ هَجْرٍ منهمُ ونُزُوحِ
وقال آخر:
وقالوا: حَمَامٌ، قُلْتُ: حُمَّ لِقَاؤُهَا ... وَعَادَ لَنَا رِيحُ الْوِصَالِ يَفُوحُ
فهذا إلى الشاعر، لأنه إن شاء جعل العُقَاب عُقْبى خير، وإن شاء جعلها عُقْبَى شر، وإن شاء جعل الْحَمَام حِمَاما، وإن شاء قال: حُمَّ اللقاء، والهدهد هُدًى وهِدَاية، والْحُبَارى حُبُورا وحبرة، والبان بَيَانا يلوح، والدَّوْم دَوَام العهد، كما صارت الصَّبا عنده صبابة، والجنوب اجتنابا، والصُّرَد تَصْريدا، إلا أن أحداً منهم لم يزجر في الغراب شيئاً من الخير، هذا قول أهل اللغة.
وذكر بعضُ أهل المعاني أن نَعِيبَ الغُرَاب يُتَطير منه، ونَغِيقه يتفاءل به، وأنشد قول جرير:
إن الغُرَاب بِمَا كَرِهْت لمَوُلَعٌ ... بِنَوَى الأحِبَّةِ دَائِمُ التّشْحَاِج
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاة يَنْعَبُ دَائِباً ... كان الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأوْدَاج
وقول ابن أبي ربيعة:
نَعَبَ الْغُرَابُ بِبَيْنِ ذَاتِ الدُّمْلُجِ ... لَيْتَ الْغُرَابَ بِبيَنْهِا لَمْ يَشحَجِ ⦗٣٨٥⦘
ثم أنشدوا في النغيق:
تَرَكْتُ الطَّيْرَ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ ... وَلِلْغِرْبَانِ من شبع نَغِيقُ
قال: ويقال " نَغَقَ الغرابُ نَغِيقا" إذا قال: غيق غيق، فيقال عندها "نغق بخير" ويقال " نَعَبَ نَعيبا" إذا قال: غاق [غاق] ، فقال عندها " نَعَبَ بشر" قال: ومنهم من يقول "نغق ببين" وزهير منهم وأنشد له:
ألقَى فِرَاقُهُمُ فِي الْمُقْلَتَيْنِ قَذًى ... أمْسَى بِذَاكَ غُرَابُ الْبَيْنِ قَدْ نَغَقَا
وقال من احتج للغراب: العربُ قد تتيمن بالغراب فتقول: هم في خير لا يَطيرُ غُرابه، أي يقع الغراب فلا يُنَفَّر لكثرة ما عندهم، فلولا تَيَمُّنُهُمْ به لكانوا ينفرونه، فقال الدافعون لهذا القول: الغرابُ في هذا المثل السَّوَاد، واحتجوا بقول النابغة:
ولرهْطِ حَرَّابٍ وَقَدّ سَوْرَةُ ... في الْمَجْدِ لَيْسَ غُرَابُهَا بِمُطَارِ
أي مَنْ عرض لهم لم يمكنه أن ينفر سوادهم لعزهم وكثرتهم.