للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعلم أن لأفْعَلَ إذا كان للتفضيل ثلاثة أحوال: الأول: أن يكون معه "مِنْ" نحو: زيد أفْضَلُ من عمرو، والثاني: أن تدخل عليه الألف وللام، نحو: زيد الأفْضَلُ، والثالث: أن يكون مضافا، نحو: زيدٌ أفضلُ القَوْمِ، وعمرو أفْضَلُكم.

فإذا كان مع "مِنْ" استوى فيه الواحد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث، تقول: زيد أفضل منك، والزيدان أفضلُ منك، والزيدون أفضل منك، وكذلك ⦗٧٩⦘ هند أفضل من دعد، والهندانِ أفضلُ، والهندات أفضل، قال الله تعالى: {هؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أطْهَرُ لكم} وإنما كان كذلك لأن تَمَامه بمن، ولا يثنى الاسم ولا يجمع ولا يؤنث قبل تمامه، ولهذا لا يجوز أن تقول "زيد أفضل" وأنت تريد من، إلا إذا دلَّت الحالُ عليه، فحينئذ إن أضمرْتَه جاز، نحو قولك: زيد أفضل من عمرو وأعْقَلُ، تريد وأعْقَلُ منه، وعلى هذا قوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفَى} أي وأخْفَى من السر، وجاء في التفسير عن ابن عباس ومُجَاهد وقَتَادة: السرُّ ما أسررت في نفسك، وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في غدٍ، علم الله فيهما سواء، فحذف الجار والمجرور لدلالة الحال عليه، وكذلك: {هُنَّ أَطْهَرُ لكم} أي من غيرها.

وإذا كان مع الألف واللام ثُنِّي وَجُمِع وأنِّثَ، تقول: زيد الأفْضَل، والزيدان الأفضلان، والزيدون الأفضلون، وإن شئت: الأفاضِلُ، وهند الفُضْلَى، وهندان الفُضْلَيَانِ، وهندات الفُضْلَيَاتُ، وإن شئت: الفُضَّلُ، قال تعالى: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَر} والألف واللام تُعَاقِبَانِ مِنْ، فلا يجوز الجمع بينهما، لا يقال: زيد الأفضلُ من عمرو، ولا يستعمل فُعْلى التفضيل إلا بالألف واللام، لا يقال: جاءتني فُضْلَى، وقد غَلَّطوا أبا نُوَاس في قوله:

كأن صُغْرَى وكُبرَى من فَوَاقعها ... حَصْباء درٍّ على أرضٍ من الذهب

وإنما استُعْمِلَ من هذا القبيل أخرى قال الله تعالى: {ومنها نُخْرِجُكم تارةً أُخْرَى} وقالوا: دُنْيا في تأنيث الأدنى، ولا يجوز القياسُ عليهما، قال الأخفش: قرأ بعضهم {وقولوا للناس حُسْنَى} وذلك لا يجوز عند سيبويه وسائر النحويين.

وإذا كان أفعل مضافا ففيه وجهان: أحدهما أن يجري مَجْرَاه إذا كان معه مِن فيستوي فيه التثنية والجمع والتذكير والتأنيث، تقول: زيد أفضلُ قومِك، والزيدان أفضلُ قومِك، والزيدون أفضلُ قومِك، وهندُ أفضل بناتِك، والهندانِ أفضلُ بناتك، والهنداتُ أفضلُ بناتِك، وهذا الوجه شائع في النثر والشعر، قال الله تعالى: {ولَتجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناسِ عَلَى حَيَاةٍ} ولم يقل أَحْرَصِي وقال ذو الرمة:

وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وَسَاِلَفَةً وَأَحْسَنُهُ قَذَالا

ولم يقل: حُسْنى الثقلين، ولا حُسْنَاه، وقال جرير: ⦗٨٠⦘

يَصْرَعْنَ ذَا اللبِّ حَتَّى لاَ حَراكَ بِهِ ... وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانَا

وعلى هذا قولُ الناسِ: أوْلى النِّعم بالشكر وأَجَلُّ النعم عندي كذا وكذا، والوجه الثاني في إضافته: أن يعتبر فيه حال دخول الألف واللام فيثنى ويجمع ويؤنث، فيقال: زيد أفضلُ قومِك، والزيدان أَفْضَلا قومِك، والزيدون أَفْضَلُو قومِك، وهند فُضْلى بَنَاتِك، والهندان فُضْلَيَا بناتك، والهندات فُضْلَيَات بناتِك.

فهذه الأحوال الثلاثة أثبتها مُسْتَقْصَاة. ومن شرط أَفْعَلَ هذا أن لا يضاف إلا إلى ما هو بعضٌ منه، كقولك: زيد أفضلُ الرجالِ، وهند أفضل النساء، ولا يجوز على الضد، ولهذا لا يجوز "زيد أفضل إخوته" لأن الإضافة تخرجُه من جملتهم، ويجوز: زيد أفضل الإخوة، والإضافة في جميع هذا ليست بمعنى اللام، ولا بمعنى من، ولكن معناها أن فَضْلَ المذكور يزيد على فضل غيره، فإن أدخلت مِنْ جاز أن تقول: الرجال أفضل من النساء، والنساء أضعف من الرجال فإذا قلت "زيد أفضل القوم" كان زيد واحداً منهم، وإذا قلت "زيد أفضل من القوم" كان خارجاً من جملتهم، فهذا هو الفرق بين اللفظين.

ومن شرط أفْعَلَ هذا أيضاً أن يكون مَصُوغا من فعل ثلاثي نحو: زيد أفضل وأكرم وأعلم من عمرو، وذلك أن بعض ما زاد على ثلاثة أحرف يمتنع أن يُبْنَى منه أفعل، نحو دَحْرَج واستخرج وتَدَحْرَج وتَخَرَّجَ وأشباهها، وبعضه يؤدِّي إلى اللبس، كقولك: زيد أكرم وأفضل وأحسن من غيره، وأنت تريد بها الزيادة في الإفضال والإكرام والإحسان، فأتوا بما يزيل اللَّبْسَ والامتناع، وهو أنهم بَنَوْا من الثلاثي لفظاً يُنْبيء عن الزيادة وأوقعوه على مصدر ما أرادوا تفضيلَه فيه، فقالوا: زيد أكثر إفضالاً وإكراماً، وأَعَمُّ إحساناً، وأشد استخراجاً، وأسرع انطلاقا، وما أشبه ذلك. ولا يبنى أفعل من المفعول إلا في النُّدْرَةِ، نحو قولهم: أَشْغَلُ من ذات النِّحْيَين، وأَشْهَرُ من الأبلق، والعَوْدُ أحمد، وما أشبهها، وذلك أن المفعول لا تأثير له في الفعل الذي يحلّ به حتى يتصور فيه الزيادة والنقصان، وكذلك حكم ما كان خِلَقَةً كالألوان والعُيُوب، لا تقول زيد أَبْيَضُ من عمرو، ولا أَعْوَرُ منه، بل تقول: أشد بياضاً، وأقبح عَوَراً، لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص ولا تكاد تتغير، فجَرَتْ مَجْرَى الأعضاء الثابتة التي لا معنى للفعل فيها، نحو اليد ⦗٨١⦘ والرِّجْل، لا تقول: زيد أَيْدَى من عمرو، ولا فلان أَرْجَلُ من فلان، قال الفراء: إنما ينظر في هذا إلى ما يجوز أن يكون أقل أو أكثر، فيكون أَفْعَلُ دليلاً على الكثرة والزيادة، ألا ترى أنك تقول: زيد أَجْمَلُ من فلان، إذا كان جمالُه يزيد على جماله، ولا تقول للأعميين: هذا أَعْمَى من ذاك، فأما قوله تعالى {وَمَنْ كان فِي هذِهِ أَعْمَى فهو في الآخرة أَعْمَى} فإنما جاز ذلك لأنه من عَمَى القلب، تقول: عَمِىَ يَعْمَى عَمًى فهو عَمٍ وأَعْمى وهم عَمُون وعُمْىٌ وعُمْيَان، قال الله تعالى {بل هُمْ منها عَمُونَ} وقال تعالى {صُمٌّ بَكْمٌ عَمْيٌ} وقال {لم يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعَمْيانَاً} فالأول في الآية اسمٌ، والثاني تفضيل، أي مَنْ كان في هذه - يعني في الدنيا - أعمى القلب عما يرى من قُدْرة الله في خلق السموات والأرض وغيرها مما يُعَانيه فلا يؤمن به فهو عما يَغِيبُ عنه من أمر الآخرة أَعْمَى أن يؤمن به. أي أشدُّ عمًى. ويدل على هذا قوله تعالى {وأضل سبيلا} وقرأ أبو عمرو {ومن كان في هذه أعمى} بالإمالة {فهو في الأخرة أعمى} بالتفخيم، أراد أن يفرق بين ما هو اسم وبين ما هو أفعل منه بالإمالة وتركها، وكل ما كان على أفعل صفةً لا يبنى منه أفعل التفضيل، نحو قولهم: جَيْشٌ أَرْعَن، ودينار أَحْرَش، فأما قولهم: فُلاَن أَحْمَق من كذا، فهو أفعل من الحمق، لأنه يقال: رجل حمَقِ كما يقال: رجل أحمق، ومنه قول يزيد بن الكحم:

قد يقتر الحول التقيّ ... ويكثر الحمق الأثيم

وكذلك قولُه تعالى {فهو في الآخرة أعمى} من قولك هذا عَمٍ وهذا أَعْمَى منه.

وحكم ما أَفْعَلَهُ وأفْعِلْ به في التعجب حكم أَفْعَلَ في التفضيل في أنه أيضاً لا يبنى إلا من الثلاثي، ولا يتعجب من الألوان والعيوب إلا بلفظ مَصُوغ من الفعل الثلاثي كما تقدم، فلا يقال: ما أَعْوَرَهُ ولا ما أَعْرَجَه، بل يقال: ما أشدَّ عوَره، وَأَسْوَأَ عَرَجَه، وما أشد بَيَاضَه وَسَوَاده، وقول من قال:

أَبْيَضُ مِنْ أُخْتِ بَنِي أَبَاضِ ... وقول الآخر:

أَمَّا المُلُوكُ فأَنْتَ الْيَوْمَ أَلأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَباخِ

محمولان على الشذوذ، وكذلك قولهم: ما أعطاه، وما أَوْلاَه للمعروف، وما أَحْوَجَه، يريدون ما أشد احتياجَه، على أن بعضهم قال: ما أَحْوَجَه من حَاجَ يَحُوجُ حَوْجاً، أي احتاج، وقال بعضهم: إنما فعلوا هذا ⦗٨٢⦘ بعد حذف الزيادة وردِّ الفعِل إلى الثلاثي، وهذا وَجْه حَسَن.

وحكم أَفْعِلْ به في التعجب حكم ما أفعله لا يقال: أَعْوِرْ به، كما لا يقال: ما أَعْوَرَه، بل يقال: أشْدِدْ بعَوَرِهِ، ويستوي في لفظ أَفْعِلْ به المذكرُ والمؤنث والتثنية والجمع، تقول: يا زيد أكْرِمْ بعمرو، ويا هند أكرم بزيد، ويا رجلان أكرم، ويا رجال أكرم، كما كان في مَا أَحْسَنَ زيداً، وما أَحْسَنَ هنداً، وما أَحْسَنَ الزيدين، وما أحسن الهندات.

كذلك قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن في كتابه المُعَنْون بأفعل حاكياً عن المازني أنه قال: قد جاءت أَحْرُف كثيرة مما زاد فعله على ثلاثة أحرف فأدخلت العربُ عليه التعجب، قالوا: ما أَتْقَاه الله، وما أَنْتَنه، وما أَظْلَمَها، وما أَضْوَأَها، وللفقير: ما أفقْرَه، وللغني: ما أَغْنَاه، وإنما يقال في فعلهما: افتقر واستغنى، وقالوا للمستقيم: ما أَقْوَمَه، وللمتمكن عند الأمير: ما أَمْكَنه، وقالوا: ما أَصْوَبه، وهذا على لغة من يقول: صَابَ بمعنى أصاب، وقالوا "ماأَخْطَأه" لأن بعض العرب يقولون خَطِئْتُ في معنى أخطأت وقال: يَا لَهْفَ هِنْدٍ إذ خَطِئْنَ كَاهِلاَ ... (هو من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي)

وقالوا: ما أَشْغَلَه، وإنما يقولون في فعله شُغِلَ، وما أزهاه وفعله زُهِيَ. وقالوا: ماآبَلَه يريدون ما أكثر إبِلَه، وإنما يقولون: تأبَّلَ إبلا إذا اتخذها، وقالوا: ما أبْغَضَه لي، وما أَحَبَّه إلي، وما أَعْجَبَه برأيه، وقال بعض العرب: ما أملأ القِرْبة، هذا ما حكاه عن المازني، ثم قال: وقال أبو الحسن الأخفش: لا يكادون يقولون في الأرْسَح ما أَرْسَحَه، ولا في الأسْتَه ما أَسْتَهَه، قال: وسمعت منهم من يقول: رَسِحَ وَسَتِه، فهؤلاء يقولون: ما أرْسَحَه وما أسْتَهَه.

قلت: في بعض هذا الكلام نظر، وذلك أن الحكم بأن هذه الكلمات كلها من المَزِيد فيه غيرُ مسلم، لأن قولهم "ما أتقاه لله" يمكن أن يحمل على لغة من يقول: تَقَاه يَتْقِيه، بفتح التاء من المستقبل وسكونها، حتى قد قالوا: أتقى الأتقياء، وبنوا منه تَقِي يَتْقِي مثل سَقَى يَسْقِي إلا أن المستعمل تحريك التاء من يتقي، وعليه ورد الشعر، كما قال:

زِيَادَتَنَا نَعْمَانُ لاَ تَنْسَيَنَّهَا ... تَقِ الله فِينَا والكتابَ الذي تَتْلُو

وقال آخر:

جَلاَهَا الصّيْقَلُونَ فأَخْلَصُوهَا ... خفَافاً كُلُّهَا يَتْقِي بأثْرِ ⦗٨٣⦘

وقال آخر:

وَلاَ أَتَقِي الغَيُورَ إذا رَآنِي ... وَمثْلِي لزَّ بالحمس الرَّبِيسِ

فلما وجدوا الثلاثي منه مستعملا بنوا عليه فعل التعجب، وبنوا منه فَعِيلا كالتقيّ وقالوا منه على هذه القضية: ما أتقاه لله.

وقولهم "ما أَنْتَنَه" لإنما حملوه على أنه من باب نَتَنَ يَنْتنُ نَتناً، وهي لغة في أَنْتَن يُنْتِنُ فمن قال: نتن قال في الفاعل مُنْتن، ومن قال منتن بناه على أنْتَنَ. هذا قول أبي عبيد عن أبي عمرو، وقال غيره: مُنْتِن في الأصل مُنْتِين فحذفوا المدة فقالوا: مُنْتِن، والقياس أن يقولوا: نَتَن فهو نَاتِن أو نَتِين، ولو قالوا نَتُنَ فهو نَتْنٌ على قياس صَعُبَ فهو صَعْب كان جائزاً.

وقولهم "ما أظلهما وأضوأها" من هذا القبيل أيضاً، لأن ظَلِمَ يَظْلَم ظلمة لغة في أظلم، وكذلك "ما أضوأها" يعنون الليلة إنما هو من ضَاء يَضُوء ضَوْءاً وضُوَاء، وهي لغة في أضاء يُضِيء إضاءة، وإذا كان الأمر على ما ذكرت كان التعجب على قانونه.

وأما قوله: قالوا للفقير "ما أفْقَرَهُ" فيجوز أن يقال: إنهم لما وجدوه على فَعِيل توهموه من باب فَعُلَ بضم العين مثل صَغُر فهو صَغير وكبر فهو كبير، أو حملوه على ضده فقدَّروه من باب فَعِل بكسر العين كغَنِى فهو غَنِيّ، كما حملوا عَدُوَّة الله على صَدِيقة، وذلك من عادتهم: أن يحملوا الشيء على نقيضه، كقوله:

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

فوصَلَ رضيَتْ بعلي لأنهم قالوا في ضده: سَخِط عَلَيَّ، ومثل هذا موجود في كلامهم، أو حملوه على فَعيل بمعنى مفعول، فقد قالوا: إنه المكسورُ الفَقَار، وإذا حُمل على هذا الوجه كان في الشذوذ مثله إذا حمل على افتقر.

وأما قولهم "ما أغناه" فهو على النَّهْج الواضح، لأنه من قولهم غَنِيَ يَغْنَي غِنًى فهو غَنِيّ، فلا حاجة بنا إلى حَمْله على الشذوذ.

وأما قولهم للمستقيم "ما أَقْوَمَه" فقد حملوه على قولهم: شيء قَوِيم، أي مستقيم، وقام بمعنى استقام صحيحٌ، قال الراجز: وقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ فَاعْتَدَلْ ...

ويقولون: دينار قائم، إذا لم يزد على مثقال ولم ينقص، وذلك لاستقامة فيه، فعلى هذا الوجه ما أَقْوَمَه غيرُ شاذ.

وقولهم للمتمكن عند الأمير "ما أمْكَنَه" إنما هو من قولهم "فلان مَكِين عند فلان" و "له مكانة عنده" أي منزلة، فلما رأوا ⦗٨٤⦘ المكانة وهي من مَصَادر فَعَل بضم العين، وسمعوا المكِيَن وهو من نعوت هذا الباب نحو كَرُم فهو كريم وشَرُف فهو شريف، توهموا أنه من مَكُنَ مَكَانة فهو مَكِين مثل مَتُن مَتَانة فهو مَتِين، فقالوا: ما أَمْكَنه، وفلان أَمْكَنُ من فلان، وليس توهمهم هذا بأغْرَبَ من توهمهم الميم في التمكن والإمكان والمكانة والمكان وما اشتقَّ منها أصلية، وجميعُ هذا من الكون، وهذا كما أنهم توهموا الميم في المِسْكِين أصلية فقالوا: تَمَسْكَنَ، ولهذا نظائر.

وأما قولهم "ما أصْوَبَه" على لغة من يقول صَاب يعني أصاب ولم يزيدوا على هذا فإني أقول: هذا اللفظ أعني لفظ صاب مبُهْم لا يُنْبئ عن معنى واضح، وذلك أن صاب يكون من صَابَ المطرُ يَصُوب صَوْباً، إذا نزل، وصَابَ السهمُ يَصُوب صَيْبُوبة، إذا قصد ولم يَجْرُ، وصاب السهمُ القرطاسَ يَصِيبه صَيْباً لغة في أصاب، ومنه المثل " مَعَ الخواطئ سهم صَائِب" فإن أرادوا بفولهم صاب هذا الأخيَر كان من حقهم أن يقولوا: ما أصْيَبَه، لأنه يائي، وإن أرادوا بقولهم: أصاب أي أتى بالصواب من القول فلا يقال فيه صَاب يَصِيب.

وأما قوله "قالوا ما أَخْطَأه" لأن بعض العرب يقول: خَطِئت في معنى "أخطأت" فهو على ما قال.

وأما " ما أشْغَلَه" فلا رَيْبَ في شذوذه، لأنه إن حُمل على الاشتغال كان شاذا، وإن حمل على أنه من المفعول فكذلك.

وأما "ما أزْهَاهُ" وحمله على الشذوذ من قولهم زُهِيَ فهو مَزْهُوٌّ فإن ابن دُرَيد قال: يقال زَهَا الرجلُ يَزْهُو زَهْواً أي تكبر ومنه قولهم: ما أزْهَاه، وليس هذا من زُهِىَ لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه، هذا كلامه، وأمر آخر، وهو أن بين قولهم "ما أشغله" و "ما أزهاه" إذا حمل على زُهى فرقاً ظاهراً، وذلك أن المزهُوَّ وإن كان مفعولا في اللفظ فهو في المعنى فاعل، لأنه لم يقع عليه فعل من غيره كالمشغول الذي شَغَله غيره، فلو حمل "ما أزْهَاه" على أنه تعجب من الفاعل المعنوي لم يكن بأس.

وأما قولهم "ما آبَلَه" أي ما أكثر إبلَه، ثم قوله "وإنما يقولون تأبَّلَ إبلا إذا اتخذها" ففي كل واحد منهما خلل، وذلك أن قولهم "ما آبله" ليس من الكثرة في شيء، إنما هو تعجب من قولهم أبِلَ الرجلُ يأبل إباله مثل شكس شكاسة فهو أَبِل وآبِل أي حاذق بمصلحة الإبل، وفلان من آبَل الناس، أي من أشدهم تأنقا في رعْيَةِ الإبل وأعلمهم بها، فقولهم "ما آبَلَهُ" معناه ما أحْذَقَه وأعْلَمَه بها، وإذا صح هذا فحملُه ⦗٨٥⦘ ما آبله على الشذوذ سهو، ثم حمله على معنى كثر عنده الإبل سهوٌ ثانٍ، وقوله "تأبَّلَ أي اتخذ إبلا" سهو ثالث، وذلك أن التأبل إنما هو امتناع الرجل من غِشْيان المرأة ومنه الحديث "لقد تأبَّلَ آدمُ على ابنه المقتول كذا عاما" وتأبلت الإبل: اجتزأت بالرطب عن الماء، والصحيح في اتخاذ الإبل واقتنائها قولُ طُفَيل الْغَنَوي.

فأبَّل واسترخى به الْخَطْبُ بعدما ... أسَافَ ولولا سَعْيُنا لم يُؤَبِل

أي لم يكن صاحب لإبل ولا اتخذها قِنْوَة.

وقولهم "ما أبغضه لي" ويروى "ما أبغضه إلي" وبين الروايتين فرق بين، وذلك أن "ما أبغضه لي" يكون من المبغِض أي ما أشَدَّ إبْغَاضَه لي، وما" أبْغَضَه إلي" يكون من البغيض بمعنى المُبْغَضِ: أي ما أشد إبغاضي له، وكلا الوجهين شاذ، وكذلك "ما أحبه إلي" إن جعلته من حَبَبْتُه أحِبُّه فهو حَبيب ومَحْبُوب كان شاذا، وإن جعلته من أحْبَبْتُه فهو مُحِب فكذلك.

وقولهم "ما أعْجَبَهُ برأيه" هو من الإعجاب لاغير، يقال: أُعْجِبَ فلان برأيه، على ما لم يسم فاعله، فهو مُعْجَب.

وأما قول بعض العرب "ما أملأ القِرْبَة" فهو إن حملته على الامتلاء أو على المملوء كان شاذا.

وأما قول الأخفش "لا يكادون يقولون في الأرْسَح ما أرْسَحَه، ولا في الأسْتَهَ ما أَسْتَهَه" فكلام مستقيم، لأنه من العيوب والخِلَق، وقد تقدم هذا الحكم.

قال: "وسمعت منهم من يقول رَسِحَ وسَتِه فهؤلاء يقولون ما أرسحه وما أستهه" قلت: إنهم إذا بَنَوْا من فَعِلَ يَفْعَلُ صفةً على فَعِلٍ قالوا في مؤنثه فَعِلَة نحو أسِفَ فهو أسِف، والمرأة أسِفَة، وسحاب نَمِر (قالوا "ماء نمر" أي زاك كثير) وللمؤنث نمِرة، ولم يسمع امرأة رَسِحة ولا سَتِهة، بل قالوا: رَسْحَاء وسَتْهاء، فهذا يدل على أن المذكر أرْسَح وأسْتَه.

هذا، وقد شذ أحرف يسيرة في كتابي هذا عن باب أفعل من كذا كان من حقها أن تكون فيه، نحو قولهم: أقبح هزيلين المرأة والفرس، وأسوأ القول الإفراط، وأشباههما، لكنها لما زالت عن أماكنها تجوزت فيها إذ لم تكن مقرونة بمن كما تجوز حمزة في إيراد قولهم: أكْذَبُ مَنْ دَبَّ ودَرَج، وأعلم بمَنْبَتِ القَصيص، وأسَدُّ قويس سهما في أفعل من كذا، ولا شك أن الجميع في حكم أفعل التفضيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>