للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أخبرني معنٌ وهو يومئذ متولّي بلادَ اليمن: أن المنصور جدّ في طلبي، وجعل لمن يحملني إليه مالاً، قال معن: فاضطررت لإلحاحه في الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوّحت وجهي، ولبست جُبّةَ صوفٍ، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، فلما خرجت من باب حربٍ - أحد أبواب بغداد - تبعني أسودُ متقلِّدٌ سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خِطام الجَمل، فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك؟ قال: أنت طلبة أمير المؤمنين، قلت: ومن أنا حتى أُطلَب! قال: أنت معن بن زائدة، فقلت له: يا هذا، اتقِ اللهَ عزَّ وجلَّ، وأين أنا من معنٍ! فقال: دعْ هذا، فإني - والله - لأعرفُ بك منك، فلما رأيت منه الجِدَّ قلت له: هذا عقدُ جوهرٍ قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سبباً لسفكِ دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعةً، وقال صدقت في قيمته، ولست قابلَه حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، قلت: قل، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني: هل وهبت مالك كلّه قطّ؟ قلت: لا، قال فنصفَه، قلت: لا، قال: فثلثَه، قلت: لا،

حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت هذا، قال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجلٌ - يريد من المشاة - ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك ووهبتك لنفسِك ولجودِك المأثورِ بين الناس ولتعلم أنّ في هذه الدُّنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسُك، ولتحقر بعد هذا كلَّ جودٍ فعلته ولا تتوقف عن مَكْرمة، ثم رمى العقد في حِجْري، وترك خِطامَ الجملِ، وولّى منصرفاً، فقلت: يا هذا، والله لقد فضحتني،