للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستقبله الناس يلبون، قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاماً لما رأى، فقال: يا معشر قريش، قد رأيت ما لا يحل صده الهدي في قلائده، قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، فقالوا: اجلس: إنما أنت أعرابي لا علم لك، فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد. (١) وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت. قال: فهل تتهموني؟، قالوا: لا، فقال: إِنَّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته. فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً من قوله لبديل (٢)، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك؟، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله (٣) قبلك؟، وإن تكن الأخرى (٤) فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشاً (٥) من الناس لكأني بهم قد انكشفوا عنك غداً - قال: وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد - فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات (٦)، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من هذا يا محمد؟، قال: " هذا ابن أبي قحافة "، قال: والله لولا يد (٧) كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، ولكن هذه بها (٨)، ثم تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف (٩) وعليه المغفر (١٠) - فضرب يده بنصل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل والله أن لا ترجع إليك. فرفع عروة رأسه، فقال: ويحك ما أفظك وأغلظك. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من هذا يا محمد؟، قال: هذا ابن أخيك، المغيرة بن شعبة، فقال: أَيْ غُدَرُ!! (١١) أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ هل غسلتُ سوأتك إلا بالأمس؟ (١٢).


(١) أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد بقوله: " ألستم بالوالد ": أنكم حي قد ولدوني في الجملة، لكون أمي منكم.
(٢) أي: أخبره أنه لم يأت يريد حرباً.
(٣) أي: أهلك أهله بالكلية.
(٤) قال: " وإن تكن الأخرى " تأدبا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك.
(٥) الأوباش: الأخلاط من السفلة.
(٦) البظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة، بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار.
(٧) أي: نعمة ومعروف.
(٨) أي: جازاه بعدم إجابته عن شتمه، بيده التي كان أحسن إليه بها، وبين الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة، أن عروة كان تحمل بدية، فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن.
(٩) فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف بقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس، لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر.
(١٠) في رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير: "أن المغيرة لما رأى عروة مقبلاً لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه".
(١١) (غُدَر) مبالغة في وصفه بالغدر.
(١٢) يعني أنه سعى وأنهى لتوه دفع دية من قتلهم ابن أخيه المغيرة غدراً.

<<  <   >  >>