للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم (١)، ثم جاء فأسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال، فإنه مال غدر، لا حاجة لنا فيه" (٢). فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما كلم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأت يريد حرباً، فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه؛ إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، ولا يبصق بصاقة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإذا أمرهم؛ ابتدروا أمره، وإذا تكلموا، خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر (٣) تعظيما له. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى، والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً - صلى الله عليه وسلم - والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له فلقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: "الثعلب"، فلما دخل مكة، عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابيش، حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني، عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه.


(١) وهم ثلاثة عشرة من ثقيف من بني مالك خرجوا للمقوقس بمصر بهدايا، فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة، لأنه ليس من القوم، بل من أحلافهم فغار منهم، ولم يواسه أحد منهم فلما كانوا ببعض الطريق شربوا الخمر وناموا فوثب المغيرة فقتلهم كلهم، وأخذ أموالهم ثم جاء إلى المدينة فأسلم. فقال أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء". أَيْ لَا أَتَعَرَّض لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا.
(٢) يستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها، مسلما كان أو كافرا، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه، فيرد إليهم أموالهم، ويستفاد من القصة أن الحربي إذا أتلف مال الحربي، لم يكن عليه ضمان.
(٣) أحد البصر: نظر بإمعان وتدقيق.

<<  <   >  >>