للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك كَيلٌ يسيرٌ عليه. فقال لهم يعقوبُ: لن أترُكَه يذهَبُ معكم حتَّى تتعَهَّدوا وتحلِفوا لي باللَّهِ أن ترُدُّوه إليَّ، إلَّا أن تُغْلَبوا عليه فلا تستطيعوا تخليصَه، فلَمَّا أعطَوه عهدَ اللَّهِ على ما طلَبَ، قال يعقوبُ: اللَّهُ على ما نقولُ وكيلٌ، تكفينا شَهادتُه علينا، وحِفظُه لنا.

ولَمَّا أرادوا الذَّهابَ إلى مصرَ خاف عليهم يعقوب من العين، وأمرهم بالأخذ بالأسباب. وقال لهم: يا أبنائي إذا دخَلتُم مدينة مصرَ فلا تدخُلوا مِن بابٍ واحدٍ، ولكن ادخُلوها مِن أبوابٍ مُتفَرِّقةٍ، وإنِّي إذ أُوصيكم بهذا لا أدفَعُ عنكم شيئًا قضاه اللَّهُ عليكم، فما الحُكمُ إلَّا للَّهِ وَحدَه، عليه اعتَمَدتُ ووَثِقتُ، وعليه وَحدَه يتوكل المؤمِنونَ.

ولَمَّا دخلَ إخوةُ يوسُفَ عليه في مَنزلِ ضِيافتِه ومعهم شَقيقُه، ضمَّ يوسُفُ إليه شقيقَه، وقال له سِرًّا: إنِّي أنا أخوك فلا تحزَنْ، ولا تغتمَّ بما صنَعوه بي وبك فيما مضى، وأمَرَه بكتمانِ ذلك عنهم، فلَمَّا جهَّزهم يوسُفُ، وحمَّلَ إبِلَهم بالطَّعامِ، جعَلَ الإناءَ- الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ ويكيلُ للنَّاسِ به (الصُواع) (١) - في متاعِ أخيه الشَّقيقِ مِن حيثُ لا يشعُرُ أحَدٌ، ولَمَّا رَكِبوا ليَسيروا نادى مُنادٍ قائلًا: يا أصحابَ هذه العِيرِ المُحمَّلةِ بالطَّعامِ، إنَّكم لسارِقونَ، فقال أولادُ يعقوبَ مُقبِلينَ على المُنادي: ما الَّذي تَفقِدونَه؟ قال المُنادي ومَن بحَضرتِه: نَفقِدُ الإناءَ الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ، ويكيلُ به الطَّعامَ، ومُكافأةُ مَن يُحضِرُه مِقدارُ حِمْلِ بعيرٍ مِن الطَّعامِ، وقال المنادي: وأنا ضامِنٌ هذه المكافأة لمن يأتي به.

فقال إخوةُ يوسُفَ: لقد تحقَّقتُم ممَّا شاهَدتُموه منَّا أنَّنا ما جِئنا أرضَ مصرَ مِن أجلِ الإفسادِ فيها، وليست السرقةُ مِن صِفاتِنا، و -بأمر يوسف- قال المُنادي ومَن معه لإخوةِ يوسُفَ: فما عُقوبةُ السَّارِقِ عِندَكم إن كُنتُم كاذبينَ في قَولِكم؟ فقال إخوةُ يوسُفَ: جزاءُ السَّارِقِ عندنا في شريعتنا أن يُسلَّمَ إلى مَن سرَقَ منه؛ حتَّى يكون عبدًا عندَه، مثلَ هذا الجزاءِ- وهو الاستِرقاقُ- نَجزي الظَّالِمينَ بالسَّرِقةِ، وهذا دينُنا وسُنَّتُنا في أهلِ السَّرِقةِ.


(١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنّ {صواع الْملك} كَانَ كَهَيْئَةِ الْمَكُّوكِ، وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَشْرَبُ فِيهِ. فالصواع مكيال وهو: المُدّ. وَيسمى المكوك بِالْفَارِسِيَّةِ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ المَكُّوك الْفَارِسِيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ الأعاجم.

<<  <   >  >>