للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرجع إخوةُ يوسُفَ إليه، وقام يوسُفُ بنَفسِه يُفتِّشُ أمتِعتَهم، فبدَأَ بأمتِعَتهم قبل مَتاعِ شَقيقِه؛ إحكامًا لِما دبَّرَه لاستبقاءِ أخيه معه، ثمَّ انتهى بوعاءِ أخيه، فاستخرجَ الإناءَ (الصواع) منه، كذلك يسَّرَ الله لِيوسُفَ هذا التَّدبيرَ الَّذي توصَّلَ به لأخْذِ أخيه بإقرار إخوته وحسب شريعتهم، وما كان له أن يأخُذَ أخاه في حُكمِ مَلِكِ مصرَ- لأنَّه ليس مِن دينِه أن يتمَلَّكَ السَّارِقَ-، لكن الأمر تم ليوسف بمَشيئةَ اللَّهِ، فقد كادَ اللهُ وقدّر لِمصلحة يوسُفَ، حتَّى يتمكَّنَ مِن أخْذِ شقيقِه مِن إخوتِه، بناءً على شريعتِهم، وإقرارِهم بأنفُسِهم.

فالله سبحانه يرفع مَنازِلَ من يشاء في الدُّنيا على غيرِه بالعلم والتدبير، كما رفَعَ منزلةَ يوسُفَ، وفوقَ كُلِّ ذي علمٍ مَن هو أعلَمُ منه، حتَّى ينتهيَ العِلمُ إلى اللَّهِ تعالى عالمِ الغَيبِ والشَّهادةِ.

ولَمَّا استُخرِجَ الصُّواعُ مِن رَحلِ أخيهم قال إخوةُ يوسُفَ: إنْ سرَقَ هذا فقد سرَقَ أخٌ شقيقٌ له مِن قَبلُ- يقصِدونَ يوسُفَ عليه السَّلامُ- فأخفَى يوسُفُ في نفسِه كلمةً حدَّثَ نفسَه بها قائلًا: أنتم أسوأُ مَنزلةً ممَّن ذكَرْتُم؛ حيثُ دبَّرتُم لي ما كان منكم، واللَّهُ أعلَمُ بما تَصِفونَ مِن الكَذِبِ والافتراءِ.

ثم تذكر إخوة يوسف ميثاقهم مع أبيهم أن يعيدوا بنيامين إليه، فقالوا ليوسف مُستعطفينَ: يا أيُّها العَزيزُ، إنَّ له والدًا كبيرًا في السِّنِّ يحِبُّه، ولا يُطيقُ بُعدَه، فخُذْ أحَدَنا بدلًا منه؛ إنَّا نراك مِن المُحسنينَ. فقال يوسُفُ: نَستعيذُ باللَّهِ أن نأخُذَ أحدًا غيرَ الَّذي وجَدْنا الصُّواعَ عندَه؛ فإنَّنا نكونُ في عِدادِ الظَّالمينَ إن فعَلْنا ما تطلُبونَ. فلَمَّا يَئِسوا مِن إجابتِه إيَّاهم لِمَا طَلَبوه، انفَرَدوا عن النَّاسِ، وأخَذوا يتشاوَرونَ فيما بينهم. فقال كبيرُهم: ألم تَعلَموا أنَّ أباكم قد أخذَ عليكم العهدَ المُؤكَّدَ؛ لَترُدُّنَّ أخاكم إلَّا أن تُغلَبوا، ومِن قبلِ هذا كان تقصيرُكم في يوسُفَ وتضييعُكم له؛ لذلك لن أُفارِقَ أرضَ مِصرَ حتَّى يأذنَ لي أبي في مُفارَقتِها، أو يقضيَ لي ربِّي بالخُروجِ منها، واللهُ خيرُ مَن حَكَمَ، وأعدَلُ مَن فَصَلَ بين النَّاسِ.

<<  <   >  >>