ثم قال لهم: ارجِعُوا إلى أبيكم، وأخبِروه بما جرَى، وقُولوا له: إنَّ ابنَكَ قد سرَقَ، وما شَهِدْنا بذلك إلَّا بعدَ أنْ تَيَقَّنَّا؛ فقد رأيْنا المِكيالَ في رَحْلِه، وما كان عِندَنا عِلمُ الغَيبِ أنَّه سيَسرِقُ حين عاهَدْناكَ على رَدِّه، واسألْ- يا أبانا- أهلَ مِصرَ، ومَن كان معَنا في القافِلةِ الَّتي كنَّا فيها، وإنَّنا لصادِقونَ فيما أخبَرْناكَ به.
ولَمَّا رجَعوا وأخبَروا أباهم، قال لهم: بل زَيَّنَتْ لكُم أنفُسُكم مَكيدةً دبَّرتُموها، كما فعَلتُم مِن قَبلُ مع يُوسُفَ، فصَبري صبرٌ جَميلٌ، لا جزَعَ فيه ولا شَكوَى معه؛ عسى اللَّهُ أنْ يرُدَّ إليَّ أبنائي جميعًا- يوسُفُ، وشقيقُه، وأخوهمُ الكبيرُ الَّذي تخلَّفَ مِن أجْلِ أخيه-؛ إنَّه هو العليمُ بحالي، الحَكيمُ في تدبيرِه. وأعرَضَ يَعقوبُ عنهم، وقد ضاق صَدرُه بما قالوه، وقال: يا حَسرَتي على يوسُفَ، وابيضَّتْ عيناه؛ مِن شِدَّةِ الحُزنِ، فهو مُمتلئُ القَلبِ حُزنًا، ولكِنَّه شَديدُ الكِتمانِ له. فقال بَنُوه: تاللَّهِ، ما تزالُ تتذكَّرُ يوسُفَ، ويَشتدُّ حُزنُك عليه، حتَّى تُشْرِفَ على الهَلاكِ أو تَهلَكَ فِعلًا، فخَفِّفْ عن نفْسِك. فقال يعقوبُ مُجيبًا لهم: لا أُظهِرُ همِّي وحُزني إلَّا إلى اللَّهِ وَحْدَه؛ فهو كاشِفُ الضُّرِّ والبَلاءِ، وأعلَمُ مِن رَحمةِ اللَّهِ وفَرَجِه ما لا تَعلَمونَه.
وكأنّ يعقوب قد تفكر في حال ذلك الرجل الكريم عزيز مصر الذي أكرم أولاده وضيّفهم في زمن القحط، وأوفى لهم الكيل، ورد لهم الثمن، وطلب منهم إحضار أخيهم ليكرمه، فكأنّه رأى فيه كرم النبوة وكرم جده إبراهيم عليه السلام حيث أنه أول من ضَيَّفَ الضيْف، كما أنّ ذاك العزيز حكم بشريعة يعقوب في استرقاق السارق، فاجتمعت فيه خصالٌ من أخلاق الإيمان والنبوة، وكذلك كان مايرجوه يعقوب ليوسف من النبوة حين أخبره عن رؤياه وهو صغير. فقال يعقوب لأبنائِه: عُودُوا إلى مِصرَ، فاستَقْصُوا أخبارَ يوسُفَ وأخيه، ولا تَقنَطوا مِن رَحمةِ اللَّهِ؛ إنَّه لا يَقنَطُ مِن رَحمةِ اللَّهِ إلَّا الجاحِدونَ لقُدرتِه، الكافِرونَ به.
ثم إنَّ إخوةَ يوسُفَ لما رجَعوا إلى مِصْرَ، ودخَلوا على يوسُفَ، أرادوا استرقاق قلبه بضعفهم وشدة حاجتهم، فإن رأوا منه ليناً وشفقة؛ حاولوا معه أن يطلق لهم أخاهم. فلما دخلوا عليه