للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثاً مرفوعاً متصلاً أو مرسلاً أو موقوفاً صحيحاً أو حسناً أو صالحاً للاعتبار أو وجدوا أثراً من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان أو استنباطاً من عموم أو إيماء أو اقتضاء فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأناً وأوسعهم رواية وأرفعهم للحديث مرتبة وأعمقهم فقهاً أحمد بن محمَّد بن حنبل ثم إسحاق بن راهويه. وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيء كثير من الأحاديث والآثار حتى سئل أحمد يكفي الرجل مائة ألف حديث حتى يفتي؟ قال: لا. حتى قيل خمسمائة ألف حديث؟ قال: أرجو. كذا في غاية المنتهى. ومراده الإفتاء على هذا الأصل. ثم أنشأ الله تعالى قرناً آخر فرأوا أصحابهم قد كفوا مؤنة جمع الحديث وتمهيد الفقه على أصلهم فتفرغوا لفنون أخرى كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه بين كبراء أهل الحديث كزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وأحمد إسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بني عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبم وكالحكم على كل حديث بما يستحقه وكالشاذة والفاذة من الأحاديث لم يرووها أو طرقها التي لم يخرجوا من جهتها الأوائل مما فيه اتصال أو علو سند أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ ونحو ذلك من المطالب العلمية وهؤلاء هم البخاري ومسلم وأبو داود وعبد الله بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم، وكان أوسعهم علماً عندي وأنفعهم تصنيفاً وأشهرهم ذكراً رجال أربعة متقاربون في العصر:

- أولهم: أبو عبد الله البخاري وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها، فصنف جامعه الصحيح ووفى بما شرط، وبلغنا أن رجلاً من الصالحين رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه وهو يقول: مالك اشتغلت بفقه محمَّد بن إدريس وتركت كتابي. قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: صحيح البخاري. ولعمري أنه نال من الشهرة والقبول درجة لا يرام فوقها.

- وثانيهم: مسلم النيسابوري توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة وأراد تقريبها إلى الأذهان وتسهيل الاستنباط منها فرتب ترتيباً جيداً وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون وجمع بين المختلفات فلم يدع لمن له معرفة لسان العرب عذراً في الإعراض عن السنة إلى غيرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>