وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢} [الزخرف٢١و ٢٢] فرجعوا عن جواب ما ألزموا به إلى التقليد. فقال تعالى:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}[الزخرف: ٢٤]، فأجابوا بمجرد الإنكار ركوناً إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال، فكذلك كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم لأنه خرج عن معتادهم وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ليوقعوا بينهم وبينه المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقة واهى بنائهم فأبى عليه السلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب، وأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)} [الكافرون: ١، ٢] إلى آخر السورة فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة ورموه بسهام القطيعة وصار أهل السلم كلهم حرباً عليه وعاد الولي الحميم عليه كالعذاب الأليم، فاقربهم إليه نسباً كان أبعد الناس عن موالاته كأبي جهل وغيره وألصقهم به رحماً كانوا أقسى قلوباً عليه؛ ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ولا سلطهم على النيل من أذاه إلا نيل المصلوفين، بل حفظه الله وعصمه وتولاه بالرعاية والكلاءة حتى بلّغ دعوة ربه، ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها وعلى توالي تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا لكن على وجه من الحكمة عجيب وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل. ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم إبراهيم عليه السلام وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام: ٩٠]، وقوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ}[الشورى: ١٣]، وما زال عليه الصلاة والسلام يدعو إليها فينوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء خوفاً من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإِسلام فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا فمن أهل الإِسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض أو على دفع العار في الإخفار ومنهم مَن فرّ من الإذاية وخوف الغرة هجرة إلى الله وحباً في الإِسلام ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقي منهم من الشدة والغلظة والعذاب أو القتل ما هو معلوم ثم لما وقعت المؤامرة على قتله وأعلمه الله بذلك وأمره بالخروج لدار هجرته وهي المدينة المنورة هاجر إليها - صلى الله عليه وسلم - واستمر تزيد الإِسلام واستقام طريقه مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد موته اهـ اعتصام.