وزبدة القول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث في مكة من وقت النبوة إلى أن هاجر إلى المدينة اثني عشر سنة وخمسة أشهر وأياماً إذا اعتبرنا آخر يوم لها هو يوم الوصول إلى قباء أنزل عليه في أثنائها معظم القرآن والذي نزل منه بمكة ثلاث وتسعون سورة والباقي وهو اثنان وعشرون سورة نزلت بالمدينة ويمتاز المدني من القرآن عن المكي بأمرين الأول ما فيه من قصص الغزوات وأسبابها وما كان فيها مما يصح درساً نافعاً للمسلمين والثاني ما تناول من الشرائع الاجتماعية والدينية والمراد بالدينية ما شرعه لإصلاح النفوس وتهذيبها وهي التي يطلق عليها المسلمون العبادات. والاجتماعية ما شرعه ليكون أساساً لمعاملات الناس بعضهم مع بعض وأهم ما جاءت به الآيات المكية التوحيد ورفض الأوثان والأصنام فلا يكون بين العبد وربه واسطة وإثبات يوم آخر يجازى فيه كل امرئ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر وبيان الخصال التي تقرب إلى الله ولا تبعد منه وعبادات عملية تربطهم باللهِ وتوجههم إلى نحو الخير وفي آخر أيامه بمكة أذن له بالقتال والإذن به لم يشرع إلا دفعاً عن أنفسهم وتأميناً للدعوة من أن تقف الفتنة في طريقها اهـ باختصار من محاضرات الخضري.
وقوله إذا اعتبرنا كان وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء يوم الاثنين وأقام بها إلى يوم الجمعة ثاني عشر ربيع. واعلم أن من المقرر أن وظيفة الرسل تبليغ الشرائع وتقريرها على وجه يجمع إليها شملهم ويتكفل بسعادتهم وبعد هذا لا يبقى من وظيفة الرسل لمن يخلفه إلا حماية هذه الشرائع والحكم بينهم بما أنزل الله وسنّة الرسل. ومن المعلوم أن مؤازرة القوة للشرائع قاعدة كلية لا تتخلف سواء عن الشرائع الإلهية أو الأوضاع البشرية وقد ترتب عليها قيام الدول في كل ملة من الملل لضرورة وجود الوازع الذي يزع الناس بالكتاب والميزان ويردهم ولو بالقوة إلى حدود الشرع وذلك بدليل قوله تعالى فيمن سبق عن الرسل أولي الشرائع:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد: ٢٥] وفي ذلك من الإشارة إلى ملازمة القوة للدين ما لا يخفى إرهاباً للناس وكبحاً للنفوس التي يقودها مجرد الإرشاد واللين وهاته القوة إنما تقوم بالوازع وأعوانه ومنهمِ تتألف الدولة. قال الزهري: أول آية نزلت في الإذن بالقتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)} [الحج: ٣٩] فشرع - صلى الله عليه وسلم - حينئذ في تهيئة الجيوش وبعث البعوث والسرايا فغز بنفسه الكريمة هو وأصحابه حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً وكان عدد مغازيه عليه الصلاة والسلام ثمانياً وعشرين، قاتل في ثمان أو تسع منها بنفسه بدر واحد والمريسيع والخندق وقريظة وحنين وفتح مكة الذي هو الفتح الأعظم وخيبر والطائف