الثاقب سنان باشا بعد قتال استشهد فيه الكثير من الأبطال وأمراء الأجناد وكانت الدائرة على الأعداء والبغاة وظفر هذا الوزير بمحمد الحفصي المذكور واعتقله إلى أن هلك في اعتقاله وانقرضت بانقراضه هاته الدولة، والله سبحانه وتعالى الفعال لما يريد لا راد لأحكامه وأفعاله فكان ابتداؤها سنة ٦٠٣ هـ وانقراضها سنة ٩٨١ هـ وسبحان الباقي الذي لا يحول ولا يزول. والسبب في ذلك هو ما أشرن إليه فيما سلف، وهو أنه لما فسدت طباعهم واختل حالهم وامتلأ صاعهم وكانت دولتهم على حالة الهرم واستغاثوا بأعداء الدين فكان مآلهم سلب النعم وإحاطة النقم. فانظر واعتبر لحال هاته الدولة على ضعف ساحة أرضها، وقلة أنهارها وأشجارها كيف ابتداء أمرها واتساع مجال ملكها وأملها من أملها من أهل المشرق والمغرب ومدوا إليا يد البيعة ودانوا لها بالطاعة، واعتصموا بالانتساب إلى سلطانها، وأتته بيعة الأشراف من بيت الله تعالى وحرمه الآن ومهبط الوحي حيث كانت أقرب إلى خلال الخير وأثل ملوكها في الحاضرة المصانع الواسعة والأبنية النافعة كالزوايا في الطرق لأبناء السبيل والتكايا والمساجد والمدارس والمكاتب لقراءة القرآن العظيم ورتبوا الكتب العلمية في أماكن محفوظة على قانون خاص إعانة لأهل العلم وطلابه والمستشفيات، إلى غير ذلك مما بقي أثره ولم ينسَ خبره. وفي أيامهم نفق سوق العلم وظهر من الراسخين فيه من هذا القطر أعلام مصنفاتهم تشهد لهم بذلك. وكان من الحضارة بتونس ما اقتضاه طبع العمران والثروة وحال البلاد بما لا ينافي سذاجة الدين فتوالت الوفود على سكنى هاته الحاضرة من سائر الجهات على اختلاف الملل والنحل والأصناف يجذبهم مغنطيس العدل فزادوا في أسباب العمران من البناء والغراسة وغير ذلك. وانظر واعتبر كيف كانت عاقبة أمرها وانقلاب أحوالها بعد تلك القوة وعزة السلطان وعلو الكعب من انتقاض الجهات وكثرة الثوار واستطالة أيدي الأعراب في البلاد بالنهب والبغي والفساد حتى استعان آخر ملوكهم بالعدو الأجنبي وآل أمره كالمسجون في حجرة لا يملك إلا موضع قدميه ثم إلى سجنه وموته تحت أقفاله عقاباً له وزجراً لأمثاله الناسجين على منواله وما قررناه في حق ملوك هاته الدولة وعلمائها هو ملخص ما أسلفناه.
واعلم أن ملوك بني أبي حفص كانوا يجلون العلماء، ومجالسهم بهم عامرة وموائدهم مزدانة بهم باهرة وفي ذلك مصلحة لهم عظيمة ومنزلة رفيعة فخيمة إذ بوجودهم والالتفات إليهم وتعظيمهم تنشر راية العلم وتحفظ الشريعة المطهرة واللغة العربية الفصيحة. وكان غالبهم محافظاً على الشرع العزيز ممتثلاً لأوامره. وكان بتونس أربعة قضاة قاضي الجماعة هو المعبر عنه في الشرق بقاضي القضاة وكان بها