للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البيت؟

قالت: مَر بنا رجل مبارك،

قال: صِفيه لي.

قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلجَ الوجه حَسَن الخَلق، لم تَعِبْه نِحلة (١)، ولم تُزر به صُقلة (٢)، وسيماً قَسيما، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، في عَينيه دَعَج (٣)، وفي أشفاره وَطَف (٤)، وفي صوته صَهَل (٥)، وفي عُنقه سَطَع (٦)، وفي لحيته كَثاثة، أزجَّ (٧)، أقرن (٨)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سَماه وعلاه البهاء، حُلو المنطق، فصل لا نَزر ولا هَذر، كأن منطقه خرزات نظْمِ يتحدَّرْنَ، رَبَعَة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قِصَر، مَحفود (٩)، مَحشود (١٠)، لا عابسٌ، ولا مُفَنَّد (١١)، خافض الطرف لا يُثبت بصره في وجه أحد، ليس بالجافي ولا المهين، طويل السَّكْت لا يتكلم في غير حاجة .. إلخ (١٢). (١٣)

فأي صاحب قلم يملك اليوم مثل لسان ابنة البادية هذه؟ ويوم نملك لساناً كالذي ملكوا، نفتح بإذن اللَّه كما فتحوا ثغور البلاد وقلوب العباد.

وأصحاب هذه اللغة إلى الإيجاز أميل وفيه أرغب، به تفاخروا بالبيان الذي يكشف المستور، دون الضمير، ويلتمس الدلالة حين تلتبس على الفهيم، والوقوف على المعنى الحرفي من أسباب القصور في الفهم لأنه يهمل المعنى الدلالي وفيه: المعنى الوظيفي والاجتماعي والمعجمي و ... فدلالة اللفظ من حيث الوضع: خاص وعام ومشترك، وأما من حيث القصد: فدالّ بالعبارة أو بالإشارة أو بالفحوى أو بالاقتضاء.

ودراسة كهذه هي إعادة نظر في المعنى وارتباطه بأشكال التعبير، فالارتباط بين الشكل والوظيفة، أو الصلة بين المبنى والمعنى هو اللغة، وهذا النوع من الدراسة يتناول الصوت والصيغة والسياق والدلالة فيصل اللغة بالفكر.

ولعل سبب غموض بعض النصوص في تراثنا هو إهمال الوصف الكافي للمقام المحيط بالنص، والتعبير الشائع في اللغة الإنجليزية: ليست العبرة بما قيل، بل بالطريقة التي قيل فيها.

والعربية بما لها من تطور واتساع، وتقدم ورقي، تحتاج إلى جهد في تحديد معالم البطاقة الشخصية لكل فعل: بنيته أو صيغته في أحد الأبواب الستة المعروفة، وتحديد وظيفته، لزومه وتعديه، ثم الدلالات التي يعبر عنها، ثم الحروف التي تتعلق به أو يتعدى بها هذا فعل (عقل) يأتي لازماً ومتعدياً، فاللازم يعبر عن ستة معان مختلفة (١٤)، والمتعدي يعبر عن سبعة معان مختلفات كذلك (١٥) أرأيت كم لهذا الفعل من دلالات! ولا سبيل إلى علم الدلالة إلا التوقيف والتعليم. يا لها من صعوبة!! ولكنها صعوبة المجد والرقي.

ومن أدوات هذا البيان: حروف المعاني، تناولها البلغاء والنحاة والمفسرون والفقهاء وعلماء الأصول لخطرها، وهي على قلتها كثيرة الدوران بعيدة المنال إلا على ذوي الأفهام.

فإذا تعدى الفعل أو مشتقه بغير حرفه المعتاد كما في قوله تعالى: (بِمَا


(١) ضمرة ونحول.
(٢) صغر الرأس.
(٣) شديد سواد العينين.
(٤) في هدب أشفار عينيه طول.
(٥) بحة في الصوت، وقيل حدة وصلابة.
(٦) السطع: طول العنق.
(٧) الزجج: تقوس في الناصية.
(٨) القرن: التقاء طرفي الحاجبين.
(٩) مخدوم يسرعون في طاعته.
(١٠) بالغوا في إكرامه.
(١١) الفند: الخطأ في الرأي.
(١٢) عاتكة الخزاعية.
(١٣) المستدرك على الصحيحين ٣/ ١٠ - ١١.
(١٤) عقل الرجلُ: راجعه بعد شيء أذهبه. وعقل الصبي: ذكاء بعد الصبا. وعقل الظل: إذا قام قائم الظهيرة. وعقلت الرموش: صارت في معاقل الجبال. عقل البطن: استمسك.
(١٥) عقلت البعير: شددته بالعقال. عقلت الرجل: صرعنه. عقلت القتيل: غرمت ديته ..

<<  <  ج: ص:  >  >>