المعقبات من أمر الله، لا يعلم كنه طبيعتها إلا الله، يتعقبوننا في كل خاطرة وخالجة في الصغيرة والكبيرة، من بين أيدينا ومن خلفنا، يُحصون علينا النَّفَس فنحن معهم كالكتاب المفتوح لا تخفى عليهم منا خافية، يحفظون كل شيء عنا جملة وتفصيلا، فكل تعبير أو تحبير، وكل همسة أو نبْسة مستوعبة في صدورهم يحفظونها عن ظهر قلب. فأحدنا كالمتهم المستراب في سياسة نفسه، لا يمشي خطوة إلا بين جواسيس تحصي عليه حتى أسباب النية وتجمع منه حتى نزوات النفس وتترجم عنه حتى معاني النظر.
معقبات من أمر الله، ما هذا الأمر؟ ما شأنه؟ ما طبيعته؟ ما صفته؟ لو شاء اللَّه البيان لبين وفضل، ولكن مشيئته اقتضت أن تبقى الصورة غائمة لتوحي بالرهبة، بالوجل، بالإشفاق، ونبقى في حذر عند كل تصرف، ومن له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذه الضبابية بالكشف والتفصيل.
معقبات ... خامرني منها شيء لذَّ بنفسي لست أحسن وصفه، معقبات من أمره وكفى ... هل هي مخابرات في جهاز سري صدرت عن أمر ملكي ولها مهمات خاصة؟ أوليس التعقيب بعيدا عن معنى الحفظ أي الرعاية والكلاءة؟ فالمعقب من شأنه المتابعة والملاحظة والملاحقة المستمرة لإنجاز ما كلف به من أوامر ومهام، بعيدا كل البعد عن معنى الكلاءة والرعاية والحفظ والذي لا يساعد السياق عليه. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء عنده من أسر ومن جهر، من استخفى بالليل أو سرب بالنهار، ما لهم من دونه من وال، وكل شيء عنده بمقدار، يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق. في هذا الجو من الرهب والخوف وعالم الأسرار يأتي ذكر المعقبات ويأتي بعدها (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). فالحفظ هو حفظ الاستظهار ضد النسيان لا حفظ الحراسة