أقول: وفي جو من الخشوع وفي حالة من الشعور ممن أوتوا العلم وهم يسمعون تلاوة من كتاب اللَّه المبين، لا يملكون معه أنفسهم فيذلون ويخضعون يخرون للأذقان سجدا. لا يسجدون وإنما يخرون سجدا. وتقصر الألسنة عن تصوير المشاعر وتضيق الألفاظ عن وصفها فتشاركها العيون المليئة بالدمع معبرة عما تكنه الصدور، وألسنتهم تلهج بالتسبيح، يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم هذا الحال خضوعاً وذلة وخشوعاً فوق خشوع اللب والقلب. وفي إطار هذه الحالات الشعورية الغامرة تختلط المشاعر فتختلط معها الحواس.
واختيار اللام جاء لخدمة تصوير المشهد حين تضمن (يخرون للأذقان) معنى (يذلون ويخضعون) فما كان سجودهم عن وعي كامل منهم، فهم لا يسجدون وإنما يخرون للأذقان سجدا، وسرعة السقوط هذه تتفق مع سرعة النطق باللام المكسورة، ولا تتأتى لـ (على) في ثلاثة حروف آخرها مدّ يمتد فيه النفس، وغاية الخرور: السرعة لتحقيق معنى العبودية في لباس التذلل والخضوع، وفي تصاقب الخرور مع البكاء يخرون، يبكون، وتداني حالَيْهما يجعل (اللام) أظهر من (على) في سفور المعنى، وأنوه لبيان المقام، ألا ترى أن هذا المقام يقل معه الكلام ويحذف فيه أحناء المقال! إن في جِرس هذه الحروف وخفقات إيقاعها السارب في النفس دلالات على تركيبها المعجز في النظم. إنه التضمين وهذه ثمراته.